نريد أن نخرج مع شباب المسجد في رحلة فماذا تنصحون وكيف نغتنم الأوقات فيها وما…

أقول والله المستعان، إن شيخنا إمام هذا العصر في الحديث الشيخ أبو عبدالرحمن محمد ناصر الدين بن نوح الألباني رحمه الله وطيب ثراه، ورفع درجته في عليين، لو لم يكن من حسنات اللقاء به إلا معرفة أهمية الوقت لكفى ذلك، ونقرأ عن أهمية الوقت عند العلماء، لكن الفرق بين الخبر والمعاينة، فكان الشيخ إذا سئل في مكتبته عن شيء، فعين عند السائل والأخرى في الكتاب، وما رأيت أحداً أشح بوقته منه، وهذا من علامة نبوغه ومن توفيق الله له، ومن أسباب تقدمه، ولو أن الشيخ فتح بابه لكل طارق، وجرس هاتفه لكل طالب لما نبغ النبوغ الذي كان عليه، ولذا لا بد للطالب أن يفوته شيء من خير، ولكن ينبغي أن يكون فقيهاً، وأن يعرف الأولويات.
 
وكانت رحلات الشيخ تكون بعد مضي جهد وتعب، وحبس للنفس في المكتبة، التي كان يقضي فيها قبل مرض موته، كان يقضي فيها بعض الأحايين، أكثر من ثماني عشرة ساعة، لا يخرج إلا لطعام يسير أو صلاة، فما كان يخرج لذات الرحلة، وإنما كان يخرج ليتقوى ويرتاح من ضغط ما هو فيه، وليستفيد من الوقت، وكان خروجه غالباً يكون مع طلبة علم فيخرج ليفيد، وما يعرف إلا الجلوس للسؤال والجواب، وإذا كان خروجه في النهار لا ينسى القيلولة، ويقيل في السيارة فيستعين بهذه المدة اليسيرة من النوم، وكان الشيخ كالجواد كلما ركض جد واجتهد، فكان يجلس المجالس الطويلة، التي تمتد أكثر من ثماني ساعات والشباب الجالسون يتعبون من السماع والشيخ يقول: أنا معكم إلى حيث شئتم. فالمسائل العلمية كانت هي مبحثه وحادثه في جلوسه، وكما قالوا قديماً: كل شيء إن أنفقت منه فإنه ينقص إلا العلم فإنك إن أنفقته زاد.
 
وكنت في أول تعرفي على الشيخ لا أستغرب من معلوماته لكن كنت أستغرب من شيء ظهر لي فيما بعد سره، فكان الشيخ إن استشكل عليه الجواب ما رأيته تلكأ مرة في رد الشبهة التي تطرأ عليه، وكثيراً ما يكون الجالسون طلبة علم، وأناس معروفون ومرموقون ومحققون ممن يشار إليه بالبنان، بل بعض كبار العلماء وهو من هيئة كبار العلماء لما تباحثنا وإياه في بعض المسائل، لما كان عندنا هنا في الأردن، وكان يقول: الشيخ يقول كذا، ويستشكل علي كذا قلنا له الشيخ قريب فما المانع أن تجلس معه؟ فكان يقول: نتكلم من وراء الشيخ، أما أمام الشيخ فللشيخ مهابة لا تأذن لنا أن ننطق بكلمة، فكان رحمه الله له هيبة.
 
وكان حريصاً على وقته يخرج ليرتاح ويستعين فيما بعد على مواصلة الطلب من جهة وفي الجلوس تكون فائدة المباحثة وإيراد الاستشكالات من الطلبة فكان لا يتلكأ في استشكال إلا ويرده، وظهر لي السر فيما بعد، وكان السر في أشياء:
 
الأول: أن الشيخ متفنن ومتقن لأكثر من فن، فليس كمن لا يعرفه يقول إن الشيخ حديثي، فالشيخ بدأ فقيهاً، وتعلم الفقه الحنفي على أبيه، وكان أبوه فقيهاً حنفياً مرموقاً، وله تلاميذ كثر معروفون درسوا عليه الفقه، وكان للشيخ أيضاً نصيب جيد من علم أصول الفقه، ولا زلت أذكر أن الشيخ اتصل بي مرة وقال لي: دون عندك، أنا أحفظ في كتاب “التحرير” لابن همام أنه يقول كذا وكذا، وأملى علي فقرة وقال: أريد أن توثقها من كتاب “التحرير” وأن تتصل بي وتقرأ علي عبارة التحرير، فكادت العبارة التي في ذهنه تتطابق تماماً مع العبارة الموجودة في كتاب التحرير، ويقول الشيخ: حفظتها من أكثر من خمسين سنة، فكان رحمه الله يعرف علم الأصول معرفة جيدة
 
والثاني: كانت مجالس الشيخ فيها المستفيدون فرأيت مع مضي الزمن أن جل الشبه التي كانت تطرح عليه ما كانت تلقى عليه لأول مرة، ويكون له فيها سالف ذكر، فكانت هذه المسائل عنده الجواب عليها تحصيل حاصل، لأنه كان لا يعرف إلا البحث والعلم.
 
لذا نصيحتي إلى طلبة العلم أن لا ينشغلوا عن العلم بغيره، فإن العلم من أنفس ما تصرف فيه الأعمار، وهو من أقرب الطرق إلى تحصيل رضى الله، وإلى دخول الجنان، نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا.