مدارالقرآن الكريم على سورة الفاتحة، ولا يصلح قلب العبد حتى يتدبرها، وتنقسم عقيدة أهل السنة والجماعة إلى ثلاثة أقسام، أول قسم وهو توحيد الربوبية وهو أن تعتقد أن الله هو الخالق وهو المالك وهو المدبر وهو الرازق وهذا مأخوذ من قول العبد “رب العالمين”، والنوع الثاني من التوحيد ألا تُصرَف العبادة إلا لله وهذا هو معترك النزال بين الأنبياء وأقوامهم بألا تُصرَف القلوب في الذل والحب والبغض والخضوع إلا لله عز وجل، فمدار العبادة على أمرين تمام الحب مع تمام الخضوع، وفي الشرع لا يستحق العبادة إلا الله فلا يمكن عند الموحد أن يجد كمال الحب مع كمال الذل إلا لله ومدار هذا النوع من التوحيد أن على أن تخص الله بالعبادة وبالطريق إليها وهي الإستعانة فلا تعبد إلا الله ولا تستعين بعبادته إلا به. النوع الثالث من أنواع التوحيد هو توحيد الأسماء والصفات، وهذا النوع من التوحيد ضلت به أفهام وزلت به أقدام واختلف المسلمون إلى أحزاب وفرق، وحسمت الفاتحة الأمر بإشارات تحتاج منا إلى تدبر، فمعتقد أهل السنة والجماعة الذي تكون به النجاة عند الله أن تثبت ما أثبته الله لنفسه، وأن تثبت ما أثبته نبيه صلى الله عليه وسلم لربه، وأن يستسلم قلبك وعقلك لما ورد من غير تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تخييل ولا تمجيد.
ومرد توحيد الأسماء والصفات إلى ثلاثة أمور(الله،الرب، الرحمن)، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بها لكن يجوز بالإضافة، كأن تقول رب الدار..رب الأسرة وهكذا، قال تعالى: “قل ادعو الله أو ادعو الرحمن أياًّ ما تدعو فله الأسماء الحسنى” والأصل في الأسماء والصفات أن تعلم أن تشابه الذوات يقتضي تشابه الصفات وتشابه الصفات لا يقتضي تشابه الذوات، مثلاً: رأس إبرة ورأس جبل، الإبرة ذات والجبل ذات، رأس إنسان ورأس خنزير أو رأس حمار أجلكم الله، فلما اختلفت الصفات فلا يستلزم من تشابه الصفات أن تتشابه الذوات، فلما وصف الله تعالى نفسه بصفات فقال الله عزوجل:”بل يداه مبسوطتان”، يد الله ليست كيدينا فيها يمين وشمال، قال صلى الله عليه وسلم:” وكلتا يديه يمين”، قال تعالى:” سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين”، فالناس أخطئوا في اليد أخطاء كبيرة، فلا يجوز أن يقيس العبد المستسلم نفسه بالله عزوجل، فصفة العلم والحلم والحكمة واليد موجودة في المخلوقات لكن اختلفت الذوات، فباختلاف الذوات تختلف الصفات هذا مذهب أهل السنة بخلاف المذاهب الأخرى. ولا تصلح وصف: بل يداه مبسوطتان كما قال البعض هي القدرة، لو كانت كذلك الله قال لإبليس:” أتسجد لما خلقت بيدي”، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” إن الله خلق آدم بيديه، وغرس جنة عدن بيديه، وخط التوراة بيديه”، نؤمن بهذا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حق وحقيقة، كيف؟ لا ندري.
أخذنا توحيد الأسماء والصفات من “الحمدلله” ومن “الرحمن الرحيم”، بعض أهل العلم يقسم هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد قسمين فيقول: توحيد خبر وتوحيد طلب، الخبر يشمل الربوبية والأسماء والصفات؛ لأنها أخبار، والطلب يشمل توحيد الألوهية؛ لأن هذا التوحيد يحتاج أن يصرف العبد قلبه لله عزوجل. القلب يحتاج أن يتطهر قبل أن يتدبر، وأركان الإيمان الستة موجودة في الفاتحة، الإيمان بالله ورسله “صراط الذين أنعمت عليهم”، قال الله في النساء:” ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً” وموجود فيها الإيمان باليوم الآخر في آية “مالك يوم الدين” وهو يوم القيامة والإيمان بالقضاء والقدر موجود في:” اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين”، والمغضوب على وزن مفعول، واسم المفعول في اللغة العربية مبني للمجهول، لما ذكر الله الخير نسبه لنفسه، ولما الغضب وهو الشر ذكره بصيغة اسم المفعول الذي هو على صيغة اسم الفعل المبني للمجهول، فهو تماماً كقول ابراهيم:” وإذا مرضت فهو يشفين”، نسب المرض لنفسه والشفاء لله، وهو تماماً على حد قول الله عزوجل :”وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا”.
العقل بالاستقلال يعلم أن الله حق بلا شك، بل علماء الدنيا نسبة تكاد تكون 100% في وقت الاعدام والقتل والإرهاب كانوا يؤمنون بأن الله حق، آيات الله ظاهرة المنظورة والمسطورة، فالكون كله بما فيه الإنسان والدواب والأجنة والنجوم والبحار كله كتاب لله منظور ويدل على أن الله حق وكتاب الله المسطور القرآن الكريم أيضاً يدل على أن الله حق، لكن لا يمكن للعقل استقلالاً أن يعلم ما يحب الله ويرضى، فالعقل يعلم أن الله حق فقط، أما ما يحب ويرضى الله وأحكام الصلاة والطهارة والحج فلا يعلمه العقل أبداً، الهداية لا يمكن أن تتحقق إلا برسول من الله وهو الملائكة إلى نبي لرسالة بكتاب ببيان وتفصيل، فأنت لما تطلب “اهدنا الصراط المستقيم” لا يمكنك أن تعرف الصراط المستقيم بالعقل؛ لذا الإيمان قسمان: إيمان فطري وإيمان عقلي، فمن كان إيمانه عقلياً هو كافر؛ لذا ذلك العالم الذي يحدثك عن الكون والبحار والفضاء أسلم عقله ولم يسلم قلبه، ما أسلمت فطرته لا أثر لإيمانه على سلوكه أبداً. فقل أيها العبد: عرفت الله بفطرتي ولا تقل عرفت الله بعقلي، لما جاء ملحد للإمام أبي حنيفة وأراد أن يبرهن له أن الله حق فقال الإمام أبو حنيفة للملحد: أركبت البحر؟ قال: نعم، قال: ألعبت بك الأمواج؟ قال: نعم، قال: أوجدت في قلبك أن هناك قوة تنقذك مما أنت فيه؟ قال:نعم، قال: هذا هو الله. لذا الكفار عند الشدائد يصبحوا مسلمين.
لذا العبد هو مبتلى بهذا الإيمان كما أن الله ابتلى العقول بالشجرة الملعونة بالقرآن، نار وجحيم تنبت فيها شجرة؟ نعم فيها شجرة، هكذا أخبرنا ربنا وتماماً نقول كأبي بكر، أبو بكر التقى بأبو جهل فقال له: النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصل أمس للقدس وجاء، فرح أبو جهل فرحاً شديداً بدأ أبو بكر يتكلم بكلام يخالف العقل فقال لأبي بكر لو جمعت لك قريشاً أكنت مخبرهم؟ قال: أخبرهم، فالشاهد أن العقل يضر أحياناً، بعض أهل العلم له كلمات رائعة وعميقة، يقول: الشرع ولى العقل ثم عزله، المعنى أن الشرع لا يخاطب المجنون ولا يكلفه فولاه لكن ما جعله يسترسل فإذا خالف النص عزله،يقول أيضا: الشرع قاضٍ والعقل شاهد ويجوز للقاض أن يطرد الشاهد متى شاء. يعني إذا الحكم العقلي خالف الحكم الشرعي نقدم الشرعي. فلا نغتر بالعقل ولا نكن على مذهب إبليس لما رد الأمر قال: خلقته من طين وخلقتني من نار، فأول من قدم العقل على النقل ابليس، ومنهج ابليس مازال موجودا، بعض الناس يفضل بالعرق والعشيرة والقبيلة بالحرفة والمهنة بالمال…هذا منهج ابليس منهج جاهل، أما منهج الله عز وجل “إن أكرمكم عند الله أشقاكم”.
الشاعر يقول بكلمات جميلة يعقد بهذه الأبيات محاورة بين النقل والعقل يقول: علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي قد أحرز الشرف فالعقل قال: أنا أحرزت غايته والعلم قال: أنا الرحمن بي اتصف. فالرحمن وصف نفسه بالقرآن أنه عليم ولم يصف بالعاقل. الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء ترجم عن رجل ملحد اسمه الراوندي هو آية من آيات الذكاء ومع هذا هو ملحد، قال عنه:كان آية من آيات الله في الذكاء ثم قال: قلت : رضي الله عن الحماقة والبلادة مع الإيمان وغضب الله على الذكاء مع الإلحاد. فالعبرة أن يكون العبد مؤمنا، ولذا لما تقول: “اهدنا الصراط المستقيم” الصراط المستقيم الذي يحبه الله ويرضاه لايمكن أن يحقق إلا بانزال الكتاب، وانزال الكتاب لايمكن أن يكون إلا بملك سفير بين الله وبين الرسول وهو الملائكة، فسورة الفاتحة تضمنت أيضا الإيمان بالملائكة والإيمان بالكتب. أعظم نعمة من الله على العباد أن علمهم ما يحب ولم يتركهم هملا، ولذا “اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم” شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي لا يقرأ القرآن بالتمرة طعمها حلو ولا رائحة لها، والمؤمن الذي يقرأ القرآن شبهه بالأترجة التي لها رائحة طيبة، أسعد الخلق هو العبد الذي ينشرح صدره ويخشع لقراءة القرآن ويتدبره.
نعمة الله عظيمة علينا فهو الذي أرسل لنا رسلا وأنزل ملائكة سفراء بيننا وبينهم، وكان لأثر ارسال الرسل كانت رسالة وهي القرآن الكريم. تبين لنا أن الفاتحة حوت الإيمان بالأركان الستة: الإيمان بالله والرسل والقضاء والقدر واليوم الآخر، أما الإيمان بالملائكة والكتب حوته الفاتحة بالتضمن. كل عربي يعلم الدلالات، عند العلماء تسمى بمنطوق النص هنالك دلالات إشارة ودلالات لازم ودلالات تضمن ودلالات المفهوم، فهذا النوع من الدلالات لايعرفه إلا الفقهاء، مثلا ربنا عز وجل يقول في الآية: “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع” هذه آية فيها أحكام بالمنطوق وهو جواز التعدد هذا الحكم الأول أما الحكم الثاني أن التعدد للنساء أقصى حد أربعة، لو واحد ناقش بعقله وقال: أن المدلول من الآية مثنى وثلاث ورباع أي تسعة والنبي تزوج تسعة، الجواب الله قال عن الملائكة: أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع” فالملك إما له جناحين وإما له ثلاثة أجنحة وإما له أربعة أجنحة حتى لا نفهم التسع على مذهب الرفض، فذكر الملائكة بأجنحة مثنى وثلاث ورباع حتى يفهمنا ربنا. وقد ثبت في مسند أحمد أن غيلان بن أسلم الثقفي لما أسلم كان تحته عشر من النسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق سائرهم. كل عربي يفهم هذه الآية أن التعداد أربعة لكن لا يمكن أن يفهم واحد أنه يجوز النظر للمخطوبة دلالة إشارية وليست دلالة نصية وفهمنا ذلك من قوله تعالى: “ما طاب لكم” فالمرأة لا تطيب إلا بعد أن ترى. لذا القرآن الكريم مليء بالأحكام التي تستخرج من النص بالتضمن تارة بالازم تارة بالإشارة تارة. أسأل الله أن يبصرنا ويعلمنا ويفقهنا ويجعل القرآن حجة لنا لا علينا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.