اللغز في اللغة حفرة يصنعها اليربوع أو الفأرة أو الضب، وسمي بذلك لأن هذه الدواب تحفر هذه الحفرة مستقيماً في الأرض إلى أسفل، ثم تعدل إلى يمينه أو شماله فتعمي وتلغز من يبحث عنها في باطن الأرض، فسموا هذا الميل إلى اليمين أو الشمال إلغازاً، فهذا هو أصل اللغة في العربية.
وهنالك ألغاز علمية، وقد كتب ابن فرحون كتاباً في الألغاز الفقيهة في مذهب المالكية، وهنالك مؤلفات في المذاهب المتبوعة في الألغاز، وهنالك ألغاز علمية عند الأقدمين ولا يخلو منها كتاب من كتب الأدب، فهنالك ألغاز مثلاً في القلم أو الكتاب أو المحبرة وما شابه، فالألغاز باب مطروق قديماً عند العلماء، ومنهم من ألغز بأشعار، ومنهم من ألف في بعض الألغاز كتباً، كما فعل المقريزي في لغز الماء، فله رسالة مطبوعة في ذلك.
والألغاز العلمية ليست بمذمومة بإطلاق، وليست بمحمودة بإطلاق، فطرح الألغاز في مسائل العلم، إذا كان من باب الطرق التي تحفز وتنشط أذهان الطلبة، للوصول إلى الجواب المطلوب، بحيث يستقر في الذهن ولا يزول، فهذا أمر لا حرج فيه، وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من علم، وأسند (برقم 62) إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المؤمن، حدثوني ما هي؟}، فقال عبدالله بن عمر وكان صغيراً، فوقع الناس في شجر البوادي فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. قال ابن حجر في فتح الباري في فوائد هذا الحديث: فيه جواز امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى، مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وفيه التحريض على الفهم في العلم، وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وفيه إشارة أن الملغز له ينبغي ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز له باباً يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفسه.
أما الألغاز التي يقصد بها التعجيز، والألغاز التي لا ينبني عليها فائدة ولا يكون فيها كبير علم، ولا ينبني عليها علم شرعي، فهذه الألغاز مذمومة، وقد ورد في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات.
والحديث فيه ضعف، وقد نهى الأوزاعي عن المسائل التي فيها صعاب العلم، وقد كره السلف الخوض في مسائل العلم التي لم تقع، وهذا الباب الذي فيه شدة إلغاز، ولا ينبني عليه كبير فائدة ليس بمحمود، وممن ذمه الماوردي رحمه الله، في كتابه “أدب الدنيا والدين” فله كلمة جميلة في ذم الألغاز العلمية التي يراد منها التصعيب، ولا ينبني عليها علم، فقال: ((وأما اللغز فهو تحدي أهل الفراغ، وشغل ذوي البطالة، ليتنافسوا في تباين قرائحهم، ويتفاخروا في سرعة خواطرهم، فيستكدوا خواطر قد منحوا صحتها فيما لا يجدي نفعاً، ولا يفيد علماً، فهم كأهل الصراع الذين قد صرفوا ما منحوه من صحة الأجسام إلى صراع كدود يصرع عقولهم، ويهد أجسامهم، لا يكسبهم حمداً، ولا يجدي عليهم نفعاً، فانظر إلى قول الشاعر:
رجل مات وخلف رجلاً ابن أم ابن أبي أخت أبيه
ما هو أم بني أولاده وأبا أخت بني عم أخيه
أخبرني عن هذين البيتين، وقد روعك صعوبة ما تضمناه من السؤال، إذا استكدك الفكر في استخراجه فعلمت أنه أراد ميتاً خلف أباً وزوجة وعماً، فما الذي أفادك من العلم، ونفى عنك من الجهل؟ ألست بعد علمه تجهل ما كنت جاهلاً من قبله؟ !)) أ.هـ.
فهذه الألغاز التي لا ينبني عليها عمل تتعب الخاطر، وتكده وترهقه، والخاطر والعقل والذهن له قوة، إذا صرفت في مثل هذه الأشياء كان ذلك على حساب أشياء أخر، كحال الذي يلعب الشدة لما يرجع إلى بيته لا يستطيع أن يتابع ولداً، ولا أن يفكر في أمر البيت وإدارة شؤونه، لأن طاقته الذهنية وقوة تفكيره وضعها في مكان، ثم أراد في بيته أن يسترخي ويستريح، فكلما طلب منه رأي أو مشورة كلما نفر وضج وغضب.
لكن الإنسان إذا أعمل فكره وذهنه وجمع خاطره في لغز علمي لمسألة تعود عليه بنفع، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يشبه لهم الأمر الذي لا يحس، وإنما هو فكري محض، فيمثله بشيء ملموس لتتقوى الفائدة، فهذا أمر محمود.
أما تضييع الأوقات في حل المسابقات التي تسمى الثقافية ولا تعود على صاحبها بنفع، فهذا أمر ليس بحسن، ولاسيما إن كان مقابل هذا الأمر دفع مال، مثل شراء جريدة أو مجلة فيها كوبون أو ورقة مسابقة تكون كلفتها خمس قروش فيشتريها بنصف دينار يبتغي الجائزة، فهذا الشراء قمار، فإن كانت هذه السلعة قد شريت من أجل الكوبون والجائزة فهذه مقامرة، أما إن كانت تشترى دونها، والكوبون تحصيل حاصل، فلا أرى في هذا قماراً، وأما أن تباع ورقة أسئلة بنصف دينار، ويجمع ثمن هذه الأوراق ويعود شيء من هذا الثمن إلى بعض الناس، فهذا أيضاً قمار، وهذا ما يفعله بعض شباب المساجد، وهذا قمار لا يجوز شرعاً، وهذا الحال كحال أوراق اليانصيب، فأوراق اليانصيب تباع الورقة بدينار مثلاً، يشترك بها مئة ألف مثلاً، فمئة ألف دينار توزع منها خمسين ألف جوائز، وعشرين ألف للباعة، وثلاثين ألف دينار لمن ينظم المسابقة، فالكل يقامر على دينار، والأرقام المذكورة من باب التمثيل لا من باب الدراسة، والله أعلم.