الحث على طلب العلم 1

الحث على طلب العلم 1

الله عزيز حكيم، الله عزوجل عزيز، ومن عزَّ بز العرب تقول، أي من غلب سلب، العزيز الغالب، فمن لاذ بحمى الله واستقام على أمره وحقق التزكية والعلم وصدق الله تعالى فالله جل في علاه لابد أن يؤيده ولابد أن ينصره وقف سنة التغالب والتدافع التي لا مفرَّ ولا مفكَّ عنها، قيل للشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل أن يبتلى أم أن يمكن؟ فقال سبحان الله وهل يمكّنُ الرجل حتى يبتلى؟ ولذا يا إخوة نحن على يقين أن من يدعو بدعوة النبييّن لابدَّ أن يكون المال إليه ولا يستطيع أحدٍ أن يقف أمام دعوة الله عزوجل وفق فبر التاريخ، وفق سنن الله الكونية، وفق سنن الله الشرعية وما شابه، الذي أريد أن أصل إليه من خلال هذه المقدمات أريد أن أصِل إلى أن أَصْل الخير تزكية وعلم، وأصل الشر شهوة وشبهة، ولذا الإنسان لما حمل الأمانة ذكر ربنا جل في علاه الآفة التي إن لم ينتبه منها دخل عليه الضغف فقال الله عزوجل:إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴿الأحزاب: ٧٢﴾ الظلم يزول بِمَ؟ نزكيه، والجهل بِمَ يزول؟ نُعَلِمِّههُ فإن حققت يا عبدالله التزكية والعلم، خققت أصل الخير وذرأت عن نفسك أصل الشر، ما هو سبب تحقيق العلم؟ العلم دخل فيه دخل كبير، ما هو سبيل تحقيق العلم الآن؟ العلم الصافي الذي أتى به النبي صلى اللعليه وسلم ، وكان عليه الصحابة والتابعون، سبيل تحقيق العلم أن يُصَفىّ….تصفية وسبيل تحقيق التزكية التربية إذاً أصل دعوة التصفية والتربية أصلها هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، هي دعوة التزكية ودعوة العلم، لكن يا تري العلم كثير؟ العلم نقطة كسرها الجهلة، تقرا الآن أقوال وخلافات ويحتار صاحب العلم في أن يعقد قلبه على حقٍّ في بعض المسائل، بل يُسأل طالب العلم بعض المسائل التي يقصد فيها تراكم وتداخل بين جملة مخالفات فيكاد يقول طالب العلم أن مثل هذه المسألةإن الوقوف على يقين في مثل هذه المسألة يحتاج إلى وحي وكلما ابتعد الناس عن هدي النبوة وقعوا في ظلمات وورطات.

لما ذكر ربنا جل في علاه منته على الأمة بالكتاب والسنة هذه المنة ثابتة، وهذه المنة تحتاج إلى نفوس طيبة، وتحتاج إلى معرفة قواعد العلماء وثوابتهم في الاستدلال، ولذا كان الصحابة والعلماء الربانيون ينزعون من كتاب الله تعالى لكل شيء، وكانوا يفهمون كليات العلم فهماً صحيحاً، أذكر لكم مثالين: الأول عند الدارمي في المقدمة جاءت امرأة تابعية تكنى أم يعقوب تسأل ابن مسعود عن النمص فقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى لعن النامصة في كتابه، وكانت أم يعقوب امرأة قارئة فأخذت الألواح وأخذت تقرأ كتاب الله فرجعت إليه بعد حين فقالت: يا أبا عبدالرحمن لقد قرأت كتاب الله ما بين دفتيه ولم أجد آية فيها ذكر للنمص، صدقت أم كذبت؟ صدقت، قول ابن مسعود صواب أم خطأ؟ صواب، فقال لها: أما قرأت قول الله في سورة الحشر؟ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْعَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴿الحشر: ٧﴾ ، قالت: بلى، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن النامصة والمتنمصة، هذا معنى إن الله لعنك في كتابه، فأرادت أن تحتج بشيء إن وقعت المخالفة فيه من الآمر يضعف أمره، فقالت: يا أبا عبدالرحمن إن أم عبدالرحمن تنمص، من أم عبدالرحمن؟ زينب رضي الله تعالى عنها زوجة ابن مسعود، والظاهر من المسألة والله أعلم أن حواجب زينب زوجة ابن مسعود رقيقة، الظاهر هذا والله تعالى أعلم، فظنت أنها تنمص فقال لها وهي أرادت أن تحتج عليه بالعمل، ولذا سأذكر لكم سمات النص الشرعي فهوانتبهوا لها فإنها بالتأمل وجدت جل المخالفات التي تقع إنما هي غفلة عن هذه السمات الموجودة في النصوص، فقال رضي الله تعالى عنه لها: قال: والله لو كانت كما تقولين لما جامعناهن في البيوت، أي ما ساكناهن في البيوت، أي لو كانت كما تقولين مع تعبيرنا الدارج ما بقيت على ذمتي، لم تبق زوجة لي.

القصة للثانية قصة عجيبة تدلل على فطنة ودقة في الاستنباط من الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله؛ محمد بن إدريس دخل مكة وطلب العلم على مفتيها مسلم بن خالد الزنجي وعن محدثها أبو محمد سفيان ابن عيينة، وغادر مكة ليكتمل طلبه ثم رجع إلى مكة إماماً فجلس في بيت الله الحرام فقال: سلوني ولا يسألني أحد عن شيء إلا أجبته بكتاب الله تعالى، عجيب! شرَّط وضيّق على نفسه (لا يسألني أحد عن شيء إلا أجبته بكتاب الله تعالى) فقام له رجل فقال: يا أبا عبدالله، كم واحد من الأئمة الأربعة مكنى بأبي عبدالله؟الثلاثة الباقين غير أبي حنيفة فمالك وأحمد والشافعي كلهم أبو عبدالله، فقال الإمام الشافعي: سلوني ولا يسألني أحد عن شيء إلا أجبته بكتاب الله تعالى، فقام رجل فقال: يا أبا عبدالله لقد دست زنبوراً (حشرة) وأنا مُحرم قبل أن أدخل البيت الحرام فماذا عليَّ من كتاب الله؟ لقد دست زنبوراً (حشرة) داس على حشرة قبل أن أدخل بيت الله وهو محرم، قتل حشرة، ماذا علي؟ فحمد الشافعي الله تعالى ثم تلا قول الله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عن فانتهوا”، ثم أسند حديث العرباض بن سارية وفيه قوله صلى الله عليه وسلم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، ثم أسند إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً سأله عن قتل المحرم للزنبور فقال عمر: لا شيء عليك، فقال الشافعي: هذا جوابي من كتاب الله.

لذا المناكدة بين انواع الأدلة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجعل العلاقة بينها المنابذة هذا مسلك شنيع ومنهج قبيح، لم يعرفه الأولون ولذا طالب العلم يتسعع صدره لكتاب ربه وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، وعندي وفي فهمي وتقديري أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة نظرية فكما أن الله جل في علاه اختار محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه وأوحى له الكتاب والسنة، والسنة وحي، اختار الصحابة رضي الله عنهم له، فزكاهم بنبينا صلى الله عليه وسلم وعلمهم والصحابة بمثابة الأمثلة النموذجية والتطبيقات العملية للنصوص الشرعية، النظريات في علم الرياضيات لا يمكن أن تفهم إلا بمسائل تطبيقات عملية ولذا يا إخوة الشيء الذي ينبغي أن نحرص عليه ونحن بعد نمهد للكلام عن العلم وطرق تحصيله ومعالم مهمة في طلبه، لابد أن نعلم أن في النصوص الشرعية الغنية والكفاية، وأن الشريعة معللة، وأن القواعد التي استنبطها أهل العلم إنما هي مأخوذة من معاني النصوص، فإذا تواطئت على معنى مشترك استخرجوا منه قاعدة وصاغوها بصياغة يسيرة، تحفظ على الألسنة واستخدمها العلماء، لا يمكن لطالب العلم أن ينبل وأن يتقدم وأن ترسخ قدمه وأن يستقيم فهمه دون أن يستودع قلبه ما يسر الله له من نصوص الوحي من الكتاب والسنة.

فالفهم شرع عن الحفظ، والحفظ أمر لابد منه للطالب، أنظروا معي إلى أشهر علم من العلوم الذهنية القائمة على الفهم والتعليم وهو علم الرياضيات مثلاً،لكن هل يمكن لطالب علم الرياضيات أن يتقدم أو يتأخر، أو أن ينبغ إن لم يفهم، إن لم يحفظ مثلاً جداول الضرب؟ يعني علم الرياضيات قتئم على الفهم، لكن قبل الفهم يوجد شيء يسمى حفظ. لذا كان المحدثون في العصر الأول يمتحنون طالب علم الحديث بحفظه لكتاب الله فإن حإفظ كتاب الله علموه وإن لم يحفظ نبذوه، ممكن طالب العلم يقاتل في ساحات لا معارك فيها، ويخوض حروب لا عزَّ للإسلام فيها وهو لا يحفظ شيئأً أو بعضاً من السور القصار، ولم يمرر معنى الكتاب على قلبه هذا لا يهنأ بالعلم؛ الذي يهنأ بالعلم الذي يتخذ العلم غذائاَ لفطرته، فالعلم غذاء للفطرة، ثبت في الصحيح في حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من الكتاب ثم علموا من السنة.” قال حذيفة في الصحيح أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين أما أحدهما فقد رأيته وأما الأخر فأنا انتظره، اخبرنا أن الأمانة نزلت في جذر فلوب الرجال ثم علموا من الكتاب ثم علموا من السنة، وأخبرنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة فترفع الأمانة من قلبه فيبقى أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فترفع الأمانة من قلبه فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمرٍ أو كحجر دحرجته على رجلك فنفطَ فتراه منتبرا فيأتي عليكم زمان لا يكاد أحد يوئدي أمانته حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل ما أظرفه ما أجلده ما أحلمه وليس في قلبه مثقال خردل من إيمان.

الشاهد يا إخواني أن الفطرة وهي أقوى وسيلة وأقوى دليل لمعرفة الله عزوجل كالنبتة والنبتة تحتاج إلى رعالية وتحتاج إلى غذاء وطعام وتحتاج إلى نزع الدغل والحشائش والنبات البري حولها تى تستفيد من الغذاء والطعام فالنبي صلى الله عليه سلم أخبرنا أن الإيمان وهو الفطرة في جذر القلوب في أصل القلوب الجذر الأصل وحال الصحابة في علمهم وطلبه للعلم أن حافظوا على فطرهم فقال : ثم علموا من الكتاب ثم علموا من السنة.” ما وظيفة مِنّة الله على الأمة بقوله: هو الذي بعث في الأميين هل نحن أمييون أم هذه الصفة إنتزعت منا؟ أم هل بقينا عليها؟ مع بعثة رسول الله نحن أمييون نحن على الفطرة الأمييون نسبة للأم نسبة للأصل فالدين ليس فيه تشقيقات وتفريعات وأمور محتملة وأمور عقلية، النصوص الشرعية يا إخوة النص الشرعي له خمس سمات، السمة الأولى: أنه عملي فكل فهم لنص يخرجه عن كونه عملياً فهو فهم سقيم دخيل على أصل الشريعة، السم الثانية للنص: أن فيه عصمة فكلما درت مع النص عصمك الله جلَّ في علاه، النص الشرعي فيه عصمة بخلاف أقوال أهل البشر. السمة الثالثلة: شامل يشمل جميع الأفراد ولا نقول كما يقول عوام الناس الدين صالح لكل زمان ومكان، الدين مصلح للزمان والمكان، كلام العلماء كلام له تأثر بمعارفهم ومداركهم وأزمانهم، ولا سيما تلك التقريرات القائمة على المصالح والمفاسد، أو المنبعثة من تقدير المآلات بخلاف النص؛ ولذا لا عبرة باجتهاد مع مورد النص ولا مكان لتقدير البواعث ومآلات الأفعال والمصالح مع النص، إذاً من الخطأ أن نجد على كلام العالم وإن علا كعبه ودق تحريره أن نجعل كلامه أو أن ننزل كلامه منزلة النص، كثير من إخواننا لما يتباحثون في المسائل العلمية يذكرون كلام أئمة العلم ويجعلون كلامهم أدلة والواجب كما قال الإمام أبو حنيفة أن نعرف من أين نزعوا حتى نحسن هل استجد في هذا المحل الذي سننزل الدليل فيه أو كلام العالم فيه، هل استجد جديد أثر على الحكم؟ أم لم يستجد؟

إذاً النص الشرعي شامل يشمل الأفراد جميعاً، النص الشرعي شامل في أي وقت من الأوقات، إن نزلته تظهر بركته ومحاسنه بخلاف القوانين ونتائج العقول لعلها تصلح في عصرفي بيئةفي زمنفي قوم لأهل الأذواقأهل الأعرافأهل العادات، فرق ما بين النص وما بين نتائج العقل كالفرق بين النص المعصوم والإنسان المليء بالأخطاء، قلنا النص الشرعي له سمات: السمة الأولى عملي، السمة الثانية عصمةمن لاذ بالنص ارضى الله جل في علاه، السمة الثالثة شامل، السمة الرابعة حاكمالنص حاكم ليس بمحكوم، حاكم على الآراء والأقوال ، لا يمكن للنص أن يكون محكوماً، إذاً الخطأ الشنيع في علم الحديث فيما استجد في بعض مباحث التصحيح والتضعيف تلك التي شغلت بعض الباحثين لو أن الواضع أثبت صحة النص وهذا النص لم يقم له إسناد صحيحلو حقيقةتجارب علميةوقائع كونية..فتن حصلت في بلد وردت في نص وهذا النص ليس له إسناد صحيح فهل يمكن أن نجعل هذه الملابسات والاكتشافات والوقائع حاكمة على النص؟ لا يمكن البتَّة؛ لأن النص لا يمكن أن يكون حاكماً ولا يمكن أن يحكم النص بمستجد، أعود فأقول: إن طالب العلم من مرتكزات طلبه أن يرعى اهتمامه بكتاب ربه، قبيح بطالب علم يزعم أنه طالب علم ولا يستقيم لسانه بكتاب الله، وإن استقام لم يقرأ تفسيراً لكتاب الله، هذا ليس بطالب علم، طالب العلم كما هو حال الأولين، حال الصحابة (ثم علموا من الكتاب ثم علموا من السنة)، منع القرآن والإقبال على القرآن ينبغي أن يكون إقبالاً راتباً وليست هبَّة وفزعة وشيء يكون في النفس في لحظات قليلات ثم سرعان ما تتلاشى؛ لذا قالوا وأنا أرشدكم بأن تحفظوا كتاب الله بأقل من شهر، لكن انتبهوا واحرصوا ورد الحافظ لكتاب الله خمس أجزاء في اليوم، فلو طالب العلم كان له كل يوم قراءة خمسة أجزاء واستمر على هذا الورد وثبت قدمه على هذا الأمر مدة خمس سنوات مثلاً، يحفظ كتاب الله بأقل من شهر.

فحفظ كتاب الله منزلة يصل إليها بعض الخلق دون بعض وهذه المنزلة تحتاج إلى رعاية وثبات واستمرار، يقول الإمام الخطيب البغدادي في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، وأنا أتكلم عن منزلة الحفظ وأن طالب العلم لابد أن يحفظ وطالب العلم في حفظه يبدأ بالانشغال بنصوص العصمة، نصوص الوحي؛ لتقع البركة في قلبه، يقبل على كتاب ربه بعد أن يختمه، يحفظ أحاديث الأحكام، يقول الخطيب: أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة، ما بعد الظهر، قال: وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار ووقت الجوع في الحفظ أنفع من وقت الشبع، قال: وأجود أماكن الحفظ الغرف، وكل موضع بعيد عن الملهيات وقال: وليس بمحمود الحفظ بحضرة الخضرة والنبات والأنهار وقوارع الطرق وضجيج الأصوات؛ لأنها تمنع من خلو القلب غالباً، فهذه أشياء وكليات تفيد في الحفظ، طالب العلم بعد أن يجَمِّع همه على كتاب ربه وأن يبدأ الحفظ وكان الطلب مستقيماً في العصر الأول الأنور، كان طالب العلم في العشرين يبدأ بطلب علم الحديث بعد أن يحفظ كتاب الله، وكان كثير من المحدثين في العصور الأولى يمتحنون الطلبة وكان بعض المحدثين إن جاء الرقعاء من الناس ولم يعرفوا بالخلق والصيانة كانوا يبكون لم يطلب بعض الرقعاء العلم كانوا يحبون أن يكون العلم في الكبراء وان يرث العلم كابر عن كابر.

طالب العلم ما قلت في البداية عليه أن يزكي نفسه وأن يعلم طالب العلم أنه قبل أن يكون طالب علم ومع كونه طالب علم وبعد كونه طالب علم أنه طالب نجاة، فطالب العلم يطلب العلم لأنه طالب نجاة. النفس تنازع في الطلب، لما يرى الانسان أنه قد حصل شيئا، وأنه بزّ أقرانه وفاقهم وتقدم عليهم، يصيبه عجبٌ وكبرٌ وغرور، وهذا يحتاج منه أن يهضم نفسه ويحتاج منه أن يحقر نفسه، ولذا كان أيوب السختياني يقول: ينبغي للعالم أن يضع التراب فوق رأسه تواضعا لله تعالى، وكان شيخ الاسلام ابن تيمية إذا أعضلت عليه مسألة جلس يستغفر، وكان يمرغ وجهه بالتراب ويقول: اللهم يامعلم إبراهيم علِّمني اللهم يامفهم سليمان فهمني، وكان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى يقول: إن للعلم طغيانا كطغيان المال، فطالب العلم يصيبه الطغيان، ولكن ينبغي لطالب العلم ألاّ يعجب بنفسه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بينما رجل يتبخترُ في حلّته معجبٌ بنفسه مُرَجّلٌ شعره إذ خسف به الله الأرض فهو يتجلجل فيها) وقد ثبت أيضا في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يدخل من في قلبه مثقال ذرة من كبرٍ الجنة قالوا يارسول الله إن أحدنا يعجبه نعله وثيابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال ثم قال: الكبر غمط الناس وبطر الحق).

العلماء في الأصول، علماء المنطق يقولون: التعريف يجب أن يكون بالماهية، لا أن يكون بالثمرة وهذا كلام مردود عليهم؛ فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ووضح وضوحا جليّا وعرّف الكبر بثمرته، من هو المتكبر في دين الله؟ الذي لا يقدر الناس منازلهم، أن تبحث عن عيوبهم أو أن يأتيك الحق واضحاً أبلجاً وأن ترده، فمن رد الحق أو لم يعط الناس أقدارهم ولم ينزلهم منازلهم فهذاهو المتكبر في تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي لطالب العلم أن يطلب العلم لينجو عند الله، وأن يعالج آفاته في أثناء الطلب، وأن يتفقد أحواله، فقد ثبت في صحيح الإمام البخاري: عن عائشة رضي الله تعالى عنها في حادثة الإفك الطويلة، قالت: وكان شأني في نفسي أحقر من أن ينزّل الله بي قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، كل الذي كنت أرجوه أن يطلع الله نبيه على براءتي في المنام، تقول كان شأني أحقر! فطالب العلم من شأنه أن يهضم نفسه وأن لا يتكبر على عباد الله عزّ وجل. طالب العلم ينبغي أن يمتاز كما يمتاز بالخُلق أن يكون ذكياَّ، وأن يحسن كيف يحصّل، طالب العلم ينبغي أن يحسن كيفية التحصيل، وعليه أن يستفيد من مواسم تمرُّ في حياته، لو نظرت للتاجر فترى غناه إنما هو فرصة إقتنصها، فركّز عليها وانتبه لها، وفرّغ عقله وقلبه ووقته وجهده فتابعها فحصّل هذا الغنى. وكذلك طالب العلم ينبغي أن يقتنص الفرص، وأن يحسن كيف يستفيد، وأن يحسن ترتيب الأولويات، وأن يطوّع نفسه مع الأستاذ، لايقول أنا لا أقرأ كتاب كذا.. إن يسّر الله لك شيخا أو أستاذاً أو معلّماً ليدرّسك فما الذي يمنعك أن تغير من برنامجك، وأن تمشي مع المتاح ومع الممكن حتى تتقن شيئا من هذه العلوم؟ فينبغي لطالب العلم أن يحسن إغتنام الفرص

وبالجملة طالب العلم كلما كان بعيدا عن المسؤولية وعن السيادة وعما يشغل وقته كلما استطاع أن يصل على وجه أدق، وبوقت أقرب وبتحصيل أبرك وأكثر. ولذا ثبت عن عمر رضي الله تعالى عنه انه كان يقول: تفقهوا قبل أن تسوّدوا. أي تفقهوا قبل أن تصبحوا أصحاب سيادة. ونعمتان مغبونٌ فيها كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ منهما إذ يشبعان طالب علم وطالب دنيا. كان سفيان الثوري يقول: الرجل طالب العلم إن تزوج ركب البحر، فإن جاءه الولد كُسِرَ به المركب.. غرق يعني خلاص.. ولذا يا أيها الشباب احرصوا واغتنموا أوقاتكم،ثم طالب العلم يحتاج لمتابعة؛ يحتاج أن تكون عنده نهمة، يحتاج طالب العلم أن يتابع في الطلب، فالطلب في الأوقات المتتالية ..ممكن أن تقرأ في سنة أو سنتين فتحصّل ما لم يحصل الذي يأخذ العلم بالراحة وبأقل من الراحة خلال عشر سنوات، إذا ماتيسر الأستاذ فلا بد من إحياء المذاكرة، والمذاكرة أقسام؛ المذاكرة مع من هو فوقك، المذاكرةمع من هو دونك، المذاكرة مع نفسك. كان الأعمش يأتي بجارية فيملي عليها الحديث حتى يثبت حفظه،وهي لاتفهم شيئا. فيمكن أن تذاكر أقرانك، لابد من إحياء المذاكرة، أن يجتمع ثلاثة أربعة من طلبة العلم فيقرؤون مثلا صحيح البخاري، يقرؤوه في شهر أو شهرين، ماالذي يمنع؟ إن شغل المشايخ بأشياء بأشياءعديدة وبأمور كثيرة ووقع التقصير فلا طالب من الطلبة ينبغون ويجمّعون الهم والنهمة ويملأون الوقت في الطلب، وتزدحم المعلومات والنصوص عليهم بدايةً، لا بد في طالب العلم أن يبتعد عن الملهيات وعن التوسع في المباحات، وعن كثرةالمصاحبة، وأن يحيط نفسه ببيئة فيها طلب،حتى مع أهله، وحتى مع أهل بيته، وحتى مع خواصّه من إخوانه، ولا بد أن يأخذ نفسه بالورع ما استطاع، وأن يبتعد عن أسباب قواطع وعوائق تحول دون الطلب، الكذب والغيبة قبيحة، لكنها والله قبيحة جدا وقبيحة وقبيحة من طالب العلم. فينبغي لطالب العلم أن يصون سمعه وأن يصون نظره وأن يصون قلبه عما يمكن أن يقطعه أو أن يعيق دون تحصيله.

ولايخفى عليكم لما رأى مالك الشافعي قال: اتق الله وإياك والمعاصي فإنها تطفيء نور قلبك. هذه وصية الإمام مالك للإمام الشافعي: اتق الله وإياك والمعاصي فإنها تطفيء نور القلب. فالقلب إن تواردت عليه الشبهات والشهوات أصبح يسود حتى ينقلب والعياذ بالله تعالى كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة أيضا قال: (إن الفتن تعرض على القلوب عودا عودا، كالحصير فأيما قلب أشربها إلا نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها إلا نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصبح القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لاتضّره فتنة مادامت السموات والأرض، وأسود كالكوز مجخّيا لايعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه).

وينبغي لطالب العلم في البدايات أن يعرف قدر نفسه، وأن لاينشغل بما يشتته وبما لايحتمله عقله، وأن لا يخوض في المسائل التي هي للعلماءالكبار، بعض الطلبة مجرد ما يبدأ بالطلب يبدأفي مسائل عويصة، والخطأ فيها مقتلة، كثير طالب صغير يسألك عن مسائل ما ينبغي أن يتكلم فيها إلا الأئمة الكبار، طالب العلم يعرف قدر نفسه، إن سئل عن مسائل التكفير ومسائل التي تخص الأمة والفتوى التي تخص الأمة كلها يقول هذه للعلماء..هذه ليست لي، وأستعير مقولة من الإمام علي بن المديني؛ شيخ الإمام البخاري، لما وجد حدثا يبدأ بجمع طرق حديث (من كذب عليّ متعمدا) فنظر إليه فوجده يجمع طرق حديث (من كذب عليّ) ما الثمرة من جمع هذه الطرق؟ فقال علي بن المديني رحمه الله قال: (أكتبوا على قفاه لم يفلح) فطالب العلم إن اشتغل بما يشتت قلبه وبما لا يحتمله عقله، وابتدأ بالمسائل العويصة والنادرة وترك الإنشغال بالكليات؛فهذا قديرٌ وجديرٌ أن يكتب على قفاه (لم يفلح). طالب العلم لا ينشغل في البدايات بالجزئيات، كحال كثير من الطلبة هذه الأيام، طالب العلم يتذلل إلى الله، ويستعين به ويلوذ بقواه على أن يبقى ثابتا في الطلب، وقد قالوا قديما: من ثبت نبت، بعض الطلبة يسمع مجلس من مجالس المشايخ، يقرأ قصة من قصص العلماء، تأتيه هبّة في الطلب،يبدأ.. كيف يطلب العلم؟ يطلب بطريقة معكوسة! يريد من أول مشوار في الطلب أن يصبح إماماً مجتهدا، يبدأ بالمسألة الجزئية، وإن دخل في الفقه، يشغل في الفقه، يقرأ الفقه.. يبدأ في المياه..يفصّل في المياه يفصّل يفرّع الأدلة الآثار الأقوال.. يغرق في المياه، يخرج من المياه لا يعود للعلم أبداً. هذا حال كثير من الطلبة، ياحبيبنا يا أخانا إقرأ منهاج السالكين للشيخالسعدي، تقرأه بأربع ساعات، قراءة بحث تأخذ كل الفقه، تقرأ الفقه كاملاً، يعني تقرأه بكلياته ثم تبدأ، أي مسألة الطبيب يبدأ بكليات البدن ثم يأتي التخصص.

التخصص أمر طبيعي وثمرة طبيعية بعد كثرة النظر والتجوال، طالب العلم يتجول في سائر فنون العلوم، ويبحث الكليات، ما تبدأ متخصصاً، إن بدأت متخصصاً فتغفل وتغيب عنك كليات الجهل بها قبيح،فتبدأ بالكليات، لا يبدأ طالب العلمبجردالمطولات، طالب العلم قد يكون عمره في الطلب أسبوع أو شهر أو شهرين.. ياشيخ أريد أقرأ فتح الباري!! إيش تقرأ فتح الباري؟ ما يصلح تقرأ فتح الباري، حتى إن قرأت تفهم، وقراءة فتح الباري فيه عبارات فيه إصطلاحات تحتاج منك أن تمر بعلوم المصطلح وكليات علوم المصطلح وعلم الأصول؛ حتى إن قرأت تفهم الكلام على مراد صاحبه، وأنا أقول بعد تجربة أصابتني وأنا صغير، وأنا في أوائل الإعدادي، أصابتني نهمة، وقرأت قراءة أتمنى لوأني أستطيع أن أعود فأقرأ ماكنت قد قرأت، بدأت أقرأ.. قرأت من التفاسير والمطولات الشيء الكبير والكثير، لكن للأسف مالذي استفدته؟ الشيء القليل، لعدم وجود المرشد والأستاذ والمعلم آنذاك، وكم فرحت لما قرأت تفسير الألوسي، والألوسي يقول بعد نقل طويل، يقول وينقل عن بعض الفلاسفة كلاما، يقول: هل فهمت شيئا؟ أما أنا فلم أفهم شيئا!! ففرحت على هذه الكلمة .. الحمد لله، هو قرأ شيئا ولم يفهم.هذا خطأ قد يسبق لذهنك شيء فتفهمه على غير مراده.

مكثت فترة من حياتي في بداية طلبي لا آكل بوظة وأقول حرام لماذا؟ لأن ابن القيم في إغاثة اللهفان قال: البوظة حرام، ثم فهمت أن البوظة التي يتكلم عنها غير الآيس كريم التي في المحلات، يتكلم عن البوظة نوع من أنواع الخضر ما زالت موجودة في مصر، فأحياناً طالب العلم إن بدأ يقرأ وينظر لكن دون قواعد ودون أستاذ ودون مرشد ودون طلب ودون زمن فهذا يضر ولذا يعزى للجويني إمام الحرمين قوله: اصغ لن تنال العلم إلا بستة سأمليك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان، فلابد من الأستاذ الذي يلقن، ولابد أن ترسخ القدم بطول المشوار في الطلب، ولابد من الذكاء والحرص والافتقار والغربة في وقت الطلب، في وقت الرحلة، كان الناس يأخذون العلم عن مشايخ بلدهم ثم بعد أن يأخذوا علمهم أخذوا علم من حولهم ثم يتوسعون حتى يقال: فلان طاف الأرض وهو يطلب العلم، ما معنى طاف الأرض وهو يطلب العلم؟ يعني طاف على علماء الزمان، ليس المراد ما ترك قرية ولا ترك مدينة، لا المراد أنه طاف على العلماء المشهورين في ذاك الزمان.

طالب العلم إن بدأ في الطلب فيحرص على حفظ المختصرات وحفظ ما يسمى بالمتون، قالوا: من حفظ المتون حاز الفنون، وحفظ المتون ينظم العلم في الذهن، طالب العلم يكثر من الشيوخ لا يقنع بشيخ إلا إن كان ذلك الشيخ قرأت عليه انزعج فلا تنشغل بغيره حتى تأخذ علمه، فحينئذ تتحول لغيره، بعض المشايخ إن قرأت عليه ونفس الفند خاصة ان قرأته على غيره صابه شيء فطيب خاطره، وأخلص منه بعد أن تأخذ علمه ثم اقرأ على غيره، الشيخ لا يراد بذاته، لن أقول كما يقولون من لا شيخ له فالشيطان شيخه، هذه مقولة ظالمة، ولا نقول المريد بين الشيخين كالمرأة بين الزوجين، أيضاً لا نقول هذا، وإنما نقول كما قال أيوب السخستياني كما في مقدمة الدارمي بإسناد جيد قال: إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فالس غيره، أنت لا تأخذ من الشيخ لأنه فلان لا أنت تأخذ من الشيخ لأنه يعلم دين الله وأنت تبغي دين الله والشيوخ يتفاوتون فهذا مميز بحفظه وذاك مميز بفهمه، هذا بارع في فن وذاك بارع في آخر هذا عنده كرم، ذاك عنده صدق، فتتنوعع الشيوخ كما تتنوع الفاكهة ويؤثر كل فيك بما يجعلك تتقرب إلى ربك وتجتمع فيك سائر خصال الخير.

العلم ليس حفظا فقط، وإنما العلم حفظ وفهم، وإذا حصل عند الإنسان حفظ ثم أصبح هنالك حفظ وفهم بعد الحفظ، إن تناكح الحفظ مع الفهم تولد نتيجة هذا النكاح العجائب والفوائد، كيف يحّصل طالب العلم؟ يحصّله بالتأمل والتدبر والتفكر، وأن يسقي قلبه باستمرار النصوص الشرعية. وجدت عبارة للإمام ابن القيم في الإعلام جميلة، يقول: إن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها،فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس، قال: فهكذا شجرة الإسلام في القلب، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر؛ والتفكر على التذكر إلا أوشك أن تيبس، قال: وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هاهنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات، وتعلم عظيم رحمة الله، الله لما أوجب علينا خمس صلوات رحمة بنا، حتى نبقى نعرفه ونتذكره ونقابله ونشعر بمراقبته لنا، قال: إن الغرس والزرع النافع قدأجرى الله سبحانه العادة أنه لابد أن يخالطه دخلٌ ونبتٌ غريب ليس من جنسه، تأتي الشبهات، تأتي الشهوات على القلب، قال: فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه، كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى، وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له، أو يضعف الأصل، ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته، ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفةٌ به؛ فاته ربحٌ كبير وهو لايشعر. فالمؤمن دائما سعيه في شيئين؛ سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها، فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

من المعالم المهمة لطالب العلم، أن يحرص على ملء وقته بالتحصيل، وأن ينوع التحصيل و وأن يقوي مَلَكَته بالحفظ والقراءة والإستفادة، فالإنسان قد يبدأ بينه وبين القراة وحشة؛ وتزول هذه الوحشة بتقوية هذه الملكة وبتنوعها، ويبدأ الطالب بقراءة مايحب ويرغب؛ لينتهي بقراءة ما يلزم وينفع، يعني يمكن طالب العلم يبدأ في فراش نومه، يقرأ مع زجته شيئا من تحفة العروس مثلا، يدخل على النفس البهجة والسرور، ويفيده ويفيد أهله، وإن استفادت الأهل أفادت البنات. ويمكن طالب العلم أن يقرأ ماتجنح إليه نفسه ويميل إليه هواه، بما لايصادم نصا، ولكن لا يبقى على هذا الحال، وإنما يحمل نفسه بعد أن يروّضها، وقدرته وملكته على القراءة بعد أن ينميها، إلى أن يمر كما ذكرت بالكليات. عندنا اليوم عدم الإنسجام في الطلب، وعدم التكامل في الطلب، من يحسن مثلا علم الفرائض؟ في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم (لا يخرج الدجال وفريضة تقسم) فكان بعض العلماء كما ذكر السخاوي في الضوء اللامع، علماء القرن التاسع، كان بعضهم يقول: أنا ضامن لكم مادمت فيكم ألاّ يخرج الدجال؛ بأني أعلمكم علم الميراث، والدجال لا يخرج وفي الأمة من يعلم هذا العلم. من الذي يقرأ العلم الآن؟ من قرأ وفهم أصول هذا العلم؟ كل منا أعني نحن طلبة العلم نقرأ ما يشتهيه وما يحب، ولا يحمل نفسه لأن يتعلم مالا يشتهيه حتى يتعلم دين الله جل في علاه. طالب العلم يذل نفسه، لكن إن أذلها لله رفعه الله، وطالب العلم مالم يحمل على نفسه، ويذلها في الطلب؛ ليس بطالب علم، لذا تعجبني قصة بَقِيْ بن مَخلِد من منهج الأحمد العُلي الحنبلي، وهذه القصة تبين للإنسان متى يكون طالب علم؟

بَقِيْ بن مَخلد صاحب أكبر مسند، حتى استطاع من خلال مقدمة مسنده أن يعرف ما لكل واحد من أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث. في هذا دلالة على أنه كاد ان يستقرن أو أن يحصر. بلغ بقي أن في العراق إماما جهبذا، قد جمع وكاد أن يستوعب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني. فخرج من الأندلس طالبا لقاء الإمام أحمد، فلما وصل نواحي بغداد، بلغه خبر فتنة أحمد في مسألة خلق القرآن، وأن إقامة جبرية ضربت عليه، العقوبة والإقامة الجبرية قديمة، حتى الإمام أحمد حينها ما كان يخرج ليصلي لا جمعة ولا جماعة بسبب الإقامة الجبرية، قال: فاغتممت لذلك غما شديدا، من الأندلس للعراق لمّا كدت أن أصل يأتي خبر أنه لا يمكن أن ألتقي به، قال: فدخلت الجامع الذي كان يدرّس فيه أحمد، فوجدت حلقة من حلقات العلم، فنظرت فوجدت فرجة بجانب الشيخ عن رواة، يعني الطلبة، طالب علم حديث، دخل في مجلس علم ما يريد؟ قال: فكانوا يسألون عن مجموعة من الرواة، فبعضهم يزكي وبعضهم يجرّح، قال: فملت على الذي بجانبي فقلت من الشيخ؟ قال لي: أبو زكريا يحي بن معين، قلت: أبو زكريا إمام يطمع به، قال: فأخذت أسأله، وأكثرت السؤال، حتى قال لي بعض طلبته لا تأخذ شيخنا منا فأنت غريب، وقد أكثرت على الشيخ، قال فقمت وقلت: بقي سؤالان، قال لي الشيخ: سل، فقلت: هشام بن عمار، قال: فزكاه، قال: فرجعت القهقرة وتأخرت وقلت: أحمد بن حنبل؟ قال: عسى أن يقدح فيه فأسلي نفسي بقدحه، قال: فنظر الناس إلي كأنهم يريدو أن يأكلوني، وقال أبو زكريا بصوت عال: سبحان الله واسألوا عن أحمد!!

أحمد يسأل عني!! والله لو حمل الكبر تحت ردائه؛ ما ضرّه في دينه شيء، (بلغ القُلّتين)، هذه عبارة من ذهب في ميزان، لما دافع عن بعض الأئمة الجهابذة الجبال؛ كان يقول عنهم بلغ القلتين. قال: فزادني غمّا إلى غمي، فخرجت واكتريت الفندق، ونظرت في أمري، قال: فسألت عن دار الإمام أحمد، فدُللت عليها، قال: فتزيّيْتُ بزِيّ شحاد، وحملت العصا وأخذت أطرق البيوت وأقول: المسألة آجركم الله، يعني يسأل الناس المسألة، قال: فلما قربت من باب الإمام أحمد؛ رآني الجلاوزة، فلما رأوني أطرق البيوت وأسأل تركوني، قال:فطرقت الباب فقال: من في الباب؟ قلت: طالب علم نائي الدّيار، قال: من أين؟ إفريقية؟ قلت: أبعد، قال: من أين؟ قلت: الأندلس، قال: ادخل حتى لا يراك الجلاوزة، قال: فدخلت أملى عليّ ثلاثين حديثا، وقال لي: ارجع، وأفعل معك كل يوم هكذا، قال: فكنت كل يوم أدخل عليه ويملي عليّ ثلاثين حديثا، قال: حتى فك الله تعالى كربته، قال: فرجع إلى حلقاته في المسجد الكبير، فكان رحمه الله( أي الإمام أحمد) قبل أن يدرس، قبل أن يملي، يقول أين بَقِيْ؟ فأقول: ها أنا ذا، قال: قم، قال: فأقوم، قال: وكان يجعلني بجانبه، وكان الإمام أحمد يشير إليّ بأصبعه ويقول: هذا طالب علم، من طالب علم؟ هذا طالب علم.