القضاء والقدر

القضاء والقدر (1)

إن الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 1

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً 2

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا 3

أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار4

فهذا موعد الكلام التفصيلي عن أركان ومراتب الإيمان بالقدر الأربعة التي انتهى الحديث في الدرس الماضي عنها، وهذه المراتب الأربعة هي بمثابة المدخل والضوابط عند أهل السنة؛ لفهم موضوع القدر، ولابد من الإيمان بها جميعاً ولا يتحقق الإيمان بالقدر إلا بتحققها مجتمعة وبعضها مرتبط ببعض، فمن أقرّ بها جميعاً فقد نال الإيمان بالقدر على منهج السلف الذي جاء جميع الأنبياء وهو الذي استقر في الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولا يكتمل الإيمان بالقدر إلا بها جميعاً ومن انتقص واحداً منها أو أكثر اختل إيمانه بالقدر بمقدار هذا النقص، وهذه الأركان كما ذكرنا:- الركن الأول أو المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر: العلم، فيجب على كل مكلف أن يؤمن أن الله عزوجل عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً خلافاً لبعض الفرق الضالة، الذين يقولون علم الله كلي جملي وليس بجزئي ولا تفصيلي، ويتشبحون ببعض الآيات كقول الله عزوجل في الأنفال: الآن علم الله أن فيكم ضعفاً، قالوا:- ومفهوم الآية أن الله قبل ذلك ما كان يعلم فعلمه كلي وليس بجزئي، وهذا ضلال، والصواب أن المراد بقوله الآن علم الله أن فيكم ضعفاً: علم ظهور، ظهر علمه، ولذا الله عزوجل جعل الواحد يقابل الإثنين خلافاً لما كان قبل ذلك من وجوب الصبر والمصابرة في أن يلاقي المجاهد العشرة من الكفار كما دلت عليه سياق الآيات. أقول: الواجب في هذه المرتبة أو في هذا الركن أن يعتقد المكلف أن الله عزوجل عالم بكل شيء علماً تفصيلياً وكلياً أزلاً أبداً فعلمه منذ الأزل وباقٍ إلى الأبد، وهذا العلم سواء ما يتعلق بأفعاله سبحانه أو أفعال غيره، فعلمه سبحانه محيط بما كان وبما سيكون وبما لم يكن لو كان كيف يكون، وعلمه سبحانه يشمل الوجود والمعدوم والممكن والمستحيل بخلاف المشيئة، فالمشئية لا تشمل المستحيل؛ لأن المستحيل والمشيئة أمران متضادان؛ لذا أجوبة من يقول هل الله عزوجل يستطيع أن يُخرجني من ملكه؟ أو هل يستطيع الله أن يخلق إله آخر معه؟ أو يخلق صخرة لا يستطيع أن يحملها؟ وهذه الأسئلة الباطلة وهذه أسئلة فاسدة بأصلها؛ لأن المشيئة لا تتعلق بالمستحيل والمشيئة مع المستحيل متناقضان، فهذا السؤال ساقط من أصله فلا جواب عليه، وهذا أمر معروف عند المناطقة من أن النقيضان لا يجتمعان.

فعلمه سبحانه يشمل الموجود والممكن والمعدوم والمستحيل، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فقد علم الله جميع خلقه قبل أن يخلقهم، فعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم، وهل هم من أهل الجنة أم من أهل النار قبل أن يخلقوا. يقول الإمام بن القيم رحمه الله في شفاء العليل في هذه المرتبة في صفحة واحد وستين يقول: اتفق عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليها جميع الصحابة ومن تبعهم من هذه الأمة، وخالفهم مجوس هذه الأمة القدرية الغلاة، فهذه المرتبة آمن بها جميع الأنبياء وجميع الصحابة وجميع التابعين، والأدلة على هذه المرتبة كثيرة جدا من كتاب ربنا وصحيح سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فربنا عز وجل يقول: وهو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة فعلمه يشمل علم الغيب ويشمل علم الشهادة، الغيب يشمل أفعاله وصفاته وذاته ويشمل الملائكة والشهادة ما يُشاهد ويقول الله عز وجل يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ويقول الله عز وجل: عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبين، ويقول الله عز وجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته، ويقول الله عز وجل: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، ويقول الله عز وجل: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، هذا يشمل العلم بالمعدوم، هم خرجوا؟ ما خرجوا لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا فهذا يدلل على علم الله عز وجل بالمعدوم وكذلك علمه بالممكن يدل عليه قوله عز وجل: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وكذلك قوله: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.في آيات كثيرة لا تخفى على من يقرأ كتاب الله عز وجل، فهذه هي المرتبة الأولى

ودلت عليها أحاديث كثيرة أجتزئ على بعض منها، فمثلا أخرج الإمام البخاري في صحيحه بسنده إلى عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبناء المشركين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما كانوا عاملين هذا يشمل علم المعدوم، وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة أو النار، هذه هي المرتبة الأولى التي يجب على كل مكلف أن يؤمن بها وهي ركن من أركان أربعة يشملها القدر. القدر لا بدمن الايمان به بمراتبه وأركانه الأربعة، الركن الأول العلم على النحو الذي بينا وفصلنا، والمرتبة الثانية أو الركن الثاني من الإيمان بالقدر الكتابة علينا أن نؤمن أن الله عز وجل علم كل شيء، وأن الله عز وجل كتب كل شيء، كتب الله عز وجل ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ، قال الإمام بن القيم في الشفاء العليل صفحة تسعة وثمانين قال: أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ والذكر والإمام المبين والكتاب المبين. فرق بين آحاد وآحاد وأظن أن من أطلق أخطأ، وكثيرة في كتاب ربنا وصحيح حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، منها قوله عز وجل: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير، وقوله: وكل شيئ أحصيناه في إمام مبين، فالإمام المبين هو اللوح المحفوظ، فسماه الله كتاب وسماه الله امام، وقوله: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هذه الكتابة حقيقية ما كتب الله، نحن نؤمن أن الله قد كتب ما سبق به علمه في اللوح المحفوظ، وكذلك قوله عن دعاء موسى عليه السلام قال الله عز وجل: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة واكتب لنا والنبي لا يسأل ربه بما لا يليق به وبما لا يفعله، وحكى الله على لسانه في محاورته مع عدوه فرعون اللعين فقال الله عز وجل: قال أي فرعون فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى قال موسى : علمها عند ربي في كتاب، فهذه المرتبة الثانية والركن الثاني من أركان الإيمان بالقدر.

وثبت في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فهذا الكتاب مكتوب كتبه الله عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض.وفي الحديث المتفق عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة أو النار وفي رواية إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة. قد يشكُل على بعض الناس هذا الإيمان ولا سيما من يتذكر بعض النصوص الواردة من مثل قول الله عز وجل: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وكذلك فيما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: من سره أن يبسط له في رزقه وأن يُنسَأَ له في أثره فليصل رحمه. كيف يكون كل شيء قد كتب..تكون الأرزاق مكتوبة والآجال مضروبة لا يزيد منها شيء ولا ينقص كما ورد في الآيات السابقة، وربنا يقول: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وكذلك هنالك أحاديث كثيرة شهيرة بلغت حد التواتر أن هنالك خصال منها حسن الخلق ومنها حسن الجوار ومنها صلة الأرحام ومنها الدعاء فإنها تزيد في رزق الإنسان وتزيد في عمره، والكلام إن أردنا وصفه طويل ولكننا نكتفي بتقرير أقوال المحققين ومذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأن الوقت قصير والمحاضرات قليلة في هذا الموضوع الطويل، فالوصف لا يحتمله هذا المقام.

فأقول أهل السنة ومحققوهم يقولون أن القدر قدران، قدرٌ مبرم أو قدرٌ مثبت أو قدرٌ مطلق وهو ما في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وهذا كما قلنا فيه علم الله عز وجل، وما في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل. وهنالك قدر آخر يسمى بالقدر المقيّد أو القدر المعلّق، وهو في كتب الملائكة وهو الذي يقع فيه المحو والإثبات، فالآجال والأرزاق والأعمار وغيرها مثبتة في أم الكتاب لا تتغير ولا تتبدل، أما ما في صحف الملائكة فيقع فيها المحو والإثبات والتغيير والتبديل، وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوي الجزء الثامن من صفحة 517 يقول: والأجل أجلان أجل مطلق يعلمه الله وأجلٌ مقيد وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمهقال: فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً وقال: إن وصل رحمه زِدْتَّه كذا وكذا، هذا أجل معلق عنده إذا وصل فلان زده كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر، وهذا ينافي ما يسمى وكما سيأتي ولنا جولة عجلى في المحاضرة القادمة إن شاء الله عن مذاهب أهل الضلال في القدر، ينافي ما يسمى بطفرة النظّام والنظّام معتزل، فقال: علم الله حافل في كل شيء والله لا صلة له بخلقه والأعمال الصالحة والطالحة لا تؤثر لا على أعمال ولا على أرزاق، ولا صلة لله لا بمطر ولا بكون ولا بخلق ولا بشيء، ولذا قالوا عن عقيدته هذه كفر نظّام، وهذه عقيدة باطلة كلها في كتاب الله تنافيها، فلله صلة بعباده، وهو سبحانه هو الذي يتكفل برزقهم وحياتهم وسعادتهم وما إلى ذلك.

وفي هذا يقول أيضا الحافظ في الفتح في العاشر 430، قال: كأن يقال للملك مثلا إن عمر فلان مئة عام إن وصل رحمه وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله أن لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي فيه الزيادة والنقصان، وإليه الإشارة بقوله: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وإلا لما كان هناك معنىً لأن يدعو الرجل لأخيه فيقول له: أطال الله في عمرك أو أن يقول الإنسان: اللهم أحيني. ولذا ثبت عن عمر أنه كان يقول كما عند الإسماعيلي، كما ذكره بن كثير في مسند الفاروق وإسناده جيد، قال عمر: اللهم إن كنت كتبتني عندك شقيا فامْحُ ذلك واكتبني عندك سعيدا، اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح ذلك واكتبنا عندك سعداء. وهذه مسألة خصها بالتصنيف جمعٌ الكلام فيها طويل والإحالة على من أفردها، وقد يسر الله لي أن حققت كتابا للشوكاني سماه: “تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل، وكذلك كتاب للشيخ مرعي الكرمي: “إرشاد ذوي العرفان لما بالعمر من الزيادة أو النقصان، وأيضا ألف في هذا الباب السيوطي كتابا مطبوعا سماه: “إفادة الخبر بنصه بزيادة العمر ونقصه، ولبعض معاصرينا وهو الأستاذ لطفي الصغيِّر له كتاب جيد كتاب حديثي مطبوع سماه جمع جهود الحفاظ النقلة بتواتر روايات زيادة العمر بالبر والصلة، بالإطلاق أحاديث متواترة وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي ان العقيدة تثبت أيضا بخلاف المتواتر.

فجميع أنواع القدر موجودة في اللوح المحفوظ وفيهم الكتاب، وما كان معلقا منها على أسبابه وجد عند وجود السبب ما كان غير معلق في وقته لا يتقدم ولا يتأخر، والعبد مأمور باتخاذ الأسباب وفعلها، وأداء الأوامر وترك النواهي، وكل ميسر لما خلق له. هذا مجمل معتقد أهل السنة في موضوع الكتابة. إذاً قلنا أركان الإيمان بالقدر أربعة: العلم والكتاب والمشيئة والقدر. تكلمنا عن العلم وكليات العلم وعن مجمل السلف في معتقد العلم، وتكلمنا أيضا عن مجمل السلف في معتقد الكتابة، ونتكلم الآن عن مجمل السلف في معتقد المشيئة. هذه كما قلت ضوابط ومداخل لا نستطيع أن نفهم موضوع القدر إلا بها، هذه المرتبة تقتضي الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون ولا هداية ولا غواية ولا إضلال إلا بمشيئته سبحانه. يقول ابن القيم في هذه المرتبة في كتابه الشفاءالعليل صفحة 92 يقول: وهذه مرتبة دل عليها اجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله عز وجل، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه وأدلة العقل والبيان، الآيات التي تدلل على مشيئة الله جل في علاه كثيرة جدا شهيرة، وضلال الفرق جاء في المشيئة، فالمعتزلة يرون أن الله خلق ولكن الله لا يشاء، ما فرقوا بين الخلق والمشيئة، فيرون أن المعاصي لا يشاؤها الله إنما يشاؤها صاحبها، فلم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية.

ولذا علينا قبل أن نذكر مذهب المعتزلة والرد عليهم، وبعض المناظرات التي جرت لاأقول لعلماء السنة فقط وإنما أقول أيضا لعوام أهل السنة معهم أفحمتهم وأسكتتهم وأخرستهم، نتبين أن العلم في المشيئة ونعرف ماهو مجمل معتقدنا في مشيئة ربنا جل في علاه، فأما الأدلة على هذه المرتبة فكثيرة، فمنها قول الله عز وجل: وربك يخلق ما يشاء ويختار، وقوله: وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، وقوله: ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله. وقوله: من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيم، فهذه الآيات وغيرها في كتاب ربنا تُثْبِت أن لله عز وجل مشيئة نافذةً شاملةً لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، وورد ذلك أيضا في غير ما حديث، فثبت مثلا عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث شاء، وينبغي أن نفرق بين القدرة والمشيئة، فمثلا يقول الله عز وجل: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يشاء، فعدم اقتتالهم ليس لعدم قدرة الله على ذلك وإنما لعدم مشيئته. وكذلك في آيات كثيرة نفرق بين المشيئة والقدرة، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، وكقوله: ولو شاء الله ما أشركوا، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، فهذه الآيات وغيرها تدلل على أن عدم ايمانهم ليس لأن الله ليس بقادر على ذلك، وإنما لأن الله لم يشأ ذلك، ولذا ينبغي أن نعرف أقسام الإرادة، والفرق بين الإرادة والمشيئة.

فتنقسم الإرادة الربانية عند أهل السنة وفي معتقدهم قسمين:-

  • القسم الأول: إرادة كونية قدرية، وهي المشيئة فلا يخرج عن مرادها شيء، فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية، وكذلك الطائع والعاصي، فالطاعات والمعاصي كلها بمشيئة الله عزوجل، وهذا مذكور في غير آية في كتاب الله وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره حرجاً ضيقاً كأنما يصّعّد في السماء، فهذه الإرادة الكونية القدرية، فالكافر والفاجر والطاهر والعاصي تشمله هذه الإرادة، فالكافر لا يقهر الله لما يكفر والزاني والسارق والكاذب والمرابي لا يقهر الله عزوجل لما يعصي وهو يعصي بإرادة الله الكونية والقدرية وهي المشيئة، فهذا نوع من نوعي الإرادة لله عزوجل. المعتزلة أخطئوا في هذا الباب ولم يفرقوا فضلوا، وذكر ابن أبي العز الحنفي قصة لطيفة أن أعرابياً ربط ناقته على باب المسجد فدخل فصلى ثم خرج فوجد ناقته قد سرقت فرجع هذا الأعرابي العامي فوجد شيخاً ذا لحية طويلة وحوله تلاميذه فقال له يا شيخ وتوسم به خيراً وصلاحاً وقال: يا شيخ ادعوا الله تعالى أن يرد لي ناقتي فقد سرقت فدعا الشيخ على مذهبه وكان ضالاً معتزلياً، فقال: اللهم إنك لم تشأ أن تسرق ناقته، اللهم ردها عليه، فالأعرابي فَطِن فقال له: يا شيخ لا أُؤمِّن دعائك، فقال له: لم؟ فقال له: لأن ربك الذي دعوته لم يشأ أن تسرق وسرقت فأخشى ربك أن تعود فلا تعود، كلام صحيح.ولذا أهل السنة يفرقون بين إرادتين، فالسارق والكافر والعاصي والفاجر ما وقعوا منه إلا بإرادة الله، لكنها هذه الإرادة الكونية القدرية بمشيئة وهذا نوع من نوعي الإرداة، سنأتي بالفرق بين الإرداتين وبذلك يظهر الفرق على وجه جيد إن شاء الله.

الإرادة الثانية: الإرادة الشرعية الدينية وتتضمن هذه الإرادة محبة الله ورضاه، هذه الإرادة التي يحبها الله ويرضاها ومن أمثلتها في كتاب ربنا يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، والله يريد أن يتوب عليكم، هذه الإرادة الشرعية.

  • لطيفة ذكرها القرطبي في تفسيره وهي مفيدة قال: قال بعض الصالحين: كنت أظن أن من تاب، تاب الله عليه، حتى قرأت قول الله ثم تاب الله عليهم ليتوبوافعلمت أن توبة الله تسبق توبة العبد وكنت أظن أن من أحب الله أحبه الله، حتى قرأت قول الله يحبهم ويحبونه فعلمت أن حب الله سابق للعبد، وكنت أظن أن من رضي عن الله رضي الله عنه حتى قرأت قول الله تعالى ثم رضي الله عنهم ورضوا عنه، فعلمت أن رضا الله سابق لرضى العبد. تبقى الفروق بين هاتين الإرادتين، فهذا هو موضوعنا في حديثنا إن شاء الله في الدرس القادم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كان في فراغ بعد الدرس ثم بدأ كلام الشيخ:-

ولا يعرفه إلا الحذاق من أهل العلم إنهم ليسوا بمأسورين بصطلحات ولا بحلول ولا بأعداد؛ ولذا الذي يحدث ما يفيد الخبر، كل خبر بما تحتفيه القرائن، مثلاً وقع خلاف شديد في حديث أبي هريرة ولم يثبت إلا عنه إن لله تسعة وتسعين اسماً، مال الحافظ أنه ليس متواتر، وقال ابن عطية أنه متواتر مثلاً على قول من قال: أنه ليس متواتر موضوع الظن واليقين، قد تحتث القرائن فتنقل الظن إلى اليقين كصحة ما في الصحيحين بالجملة، فليس الخبر الذي في الصحيحين كالخبر الذي خارج الصحيحين وهكذافلما يذكر الآحاد مقابل المتواتر يراد به مستفيض ويراد به المشهور ويراد به الغريب وهذه ليست سواء من المنهج العلمي، إن شككنا في شيء طرحناه وإنما من المنهج العلمي إن وقع شيء ثبتناه أو نفيناه فالقول بأن الظن لا يؤخذ بالعقيدة جرم وإحداث نصوص وهذا وجه زائد عن الذي ذكرته في الدرس الماضي، ذكرت نصوص ثلاثة وأضيف إليها هذا النص الرابع ليس من المنهج العلمي إن وقع شك أهملناه وأهدرناه وإنما تحققنا منه وهذه الاصطلاحات طارئة ما كانت معروفة في زمن الصحابة ولا زمن من بعدهم ولما نحاكم الأشياء نحاكمها بحقائقها ولا نحاكمها بألفاظها ولذا كلما ابتعد الناس عن هذه النبوة وقعوا في ظلمات وكم من معتقد فاسد وكم من حكم شرعي قرر على غير الوجه الذي يحبه ويرضاه، لما أسقط الناس مصطلحاتهم المتأخرة التي لم تكن في زمن السلف الصالح على نصوص تشابهت على ما ورد في النصوص في الأسماء من غير الحقائق والمعاني، يعني لو قيل مثلاً التأويل جاءك أشعري وقال لك: أن التاويل كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة أن النبي كان يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن وأنتم تقولوا ما في تأويل في القرآن، التأويل الذي أراده النبي غير الذي أراده الأشاعرة وهكذا في عشرات المسائل.

وقد ألف أخونا الشيخ بازمون محمد بن عمر كتاباً رائعاً، فصّل فيه شيئاً من هذا الباب سماه الحقيقة الشرعية بين الحقائق الشرعية على حقائقها، فمن الفساد الكبير الذي يدخل على الناس أنهم مأسورون للاصطلاحات والألفاظ ولم تواطأ عليه المتأخرون، وإن سألتهم ما معنى هذه المصطلحات لا يعرفونها كأن يقولوا لك فلان مرجيء تقول ماذا مرجيء؟ ولماذا مرجيء؟ لا يعرف، ليس هذا من العلم شيء، ومن أجود ما قيل في هذا الباب قول أبي حنيفة، قال رحمه الله: يحرم على الرجل أن يقول بما قلنا حتى يعلم من أين أخذناه، هذه مقولة عجيبة ينبغي أن نعلم كيف جاءت هذه الاصطلاحات، هذا هو لب العلم وهذا هو جوهره وأصله، فنحن بحاجة إلى ملكات وبحاجة إلى تأريخ هذه المصطلحات حتى يتبين لنا الحق من الباطل، هل هذا الحديث صحيح تتبع الرخص يؤدي إلى الهلكة، ليس هذا بحديث صحيح لكن ثبت عن غير واحد من التابعين النهي عن تتبع الرخص، وأن من تتبع الرخص فقد اجتمع فيه الشر كله، وإن تتبع الرخص زندقة، وما أورد في هذا الباب.

وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

1 -سورة آل عمران، آية 102.

2 سورة النساء، آية -1.

3 -سورة الأحزاب، آية 70_71.

4 -هذه هي خطبة الحاجة التي كان النبي ﷺ يستفتح بها خطبه ودروسه ومواعظه، وللشيخ الألباني  فيها رسالة قيمة.