يقول الله عزوجل في أوائل الفاتحة:” الحمدلله رب العالمين” والحمد والثناء على الله عزوجل بجمال أسمائه وأفعاله بخلاف الشكر، فالشكر هو الثناء مقابل الإحسان، وأما إذا أردت أن تمدح مع حب لوجود صفات الكمال والتنزه عن المعايب والنقائص فإنك تحمده حمداً وثناء أن المحمود يستحق المدح مع الحب؛ لذا السورة بدأت بالحمدلله ولم تبدأ بالشكر لله، كل العباد سواء يقول:”الحمدلله“؛ لأن الحمد يخص الذات لإنها متصفة بصفات الجلال والكمال للأسماء والذات والفعال، وما يميز المدح هو الحب وأصحاب الفهم والعقل يحبون من فيه الصفات الطيبة ومن ابتعد عن النقائص وهذا معيار لبعض الناس، والبعض الآخر له معيار آخر يحب من أحسن إليه وآخرين يحبون الجمال والمال، ولو نظرنا للكمال فالكمال مطلق لله عزوجل، فالله خالق كل شيء وما خلق شيئاً إلا لحكمة، قال محمد صلى الله عليه وسلم:” إن الله جميل يحب الجمال” فالعاقل لا يقدم حباً على حب الله؛ لذا بدأت الفاتحة بالحمد الذي يشمل جميع أنواع الحمد وجاء لله اللام المسبوقة للفظ الجلالة للإستحقاق، فمعنى قول العبد الحمدلله أن جميع أنواع الحمد مختصة بالله وبالتالي هذا يستلزم أن يكون كل حب للعبد نابع من حب الله وأن يكون حب الله مهيمناً ومسيطراً على كل حب. أبو بكر في بدر وكان ولده مع الكفار يقول له: يا أبت رأيتك وَحِدْتُ عنك، فقال له أبو بكر: لو رأيتك لقتلتك، وورد عند الحاكم بإسناد منقطع أن أبا هريرة قتل أباه في بدر فكان حب الله عزوجل مسيطراً عليهم انخلعوا تمام الانخلاع من العشيرة ومن القبيلة، فهموا أن اللام هذه للاختصاص، فالحمد بجميع أنواعه مختص بالله فإن صرف شيء إلى غير الله فإنما هو فرع عن حب الله؛ لذا المؤمن الذي يحقق هذا المعنى يجد حلاوة الإيمان؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما…“، فحب الله مسيطر على قلب العبد.
الرب له أربعة معاني، مَعْنَيَان يختصان بذات الله سبحانه ومَعْنَيَان يختصان بأفعال الله سبحانه وتعالى، فأما المَعْنَيَان اللذان يختصان بالذات فهما أولاً: الملك “لله ملك السموات والأرض“ فكل ما في السموات والأرض لله، العرب تقول:هنا رب الدار، أي مالك الدار، فلان رب السيارة أي مالك السيارة، والألف واللام في الرب لا تطلق إلا على الله؛ لأن الألف واللام اتخذت على الرب تكون للعهد، والإله والرب المعهود هو الله جل في علاه، فالرب هو المالك، الله جل في علاه هو مالك كل شيء، والرب أيضاً هو السيد، العرب تسمي الرب: السيد، والفرق بينهما أن الرب هو السيد المُطاع، ورد هذا في القرآن “وقال للذي ظنّ أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك” يعني اذكرني عند سيدك الذي له الأمر والنهي، ومعنى قولنا: “الله الصمد“، الصمد: معناه السيد الذي تُصمد إليه الأشياء، أي ترفع إليه الأشياء، والمراد بالسيد: هو السؤدد، والسؤدد هو العز والرفعة بقوة وملك، ولا يجوز شرعاً أن نقول عن الفاجر والكافر: سيد، وتسوية المؤمن والكافر حرام، السيد هذه تُعطى للرفعاء من الناس، أهل الدين وأهل الخلق والعبادة، فهم يقال عنهم: أسياد، أما الفاجر فحرام شرعاً يقال عنه سيد بل هو ممنوع لغة؛ لأن السيد لغة صاحب الرفعة والسيادة الذين هم صفوة المجتمع من أهل السؤدد، فمن معاني الرب التي تخص الله هو السيد، كما في مسند أحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الله هو السيد“، أو قال: “السيد هو الله“، الله هو السيد الكامل في سؤدده سبحانه وتعالى.
أنت لما تقول: الحمدلله رب العالمين، الله مالك كل الخلق، وهو سيد له السيادة المطلقة، فالله هو السيد لا ترفع حاجتك التي لا يقدر عليها أي كائن حي إلا لله ورفعها إلى غيره شرك بالله، مثلاً: إن مرض أحد قلبه يتجه إلى الله ورجلاه إلى الطبيب يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب، فلا نقع في خطأين كما قال بعض المحققين، لا نعتمد على الأسباب؛ لإنه كفر ولا نترك الأسباب؛ لإنه جنون، أما شيء لا يقدر عليه إلا الله كإنزال المطر ورد غائب مقطوع الأخبار ورزق ولد لا تُرفع إلا لله، فإن رفعت لغيره فلا تفهم أن الله سيد كمال السؤدد. فالرب له أربعة معناي، معنيان يخصان الذات وهما الملك والسيادة، ومعنيان يخصان الأفعال، الأمر الأول: التدبير، الله هو المدبر يدبر خلقه ويدبر شؤونهم ويحسن إليهم ويرعاهم ويقول الله: “لولا ينهاهم الأحبار والربانيون عن قولهم الإثم وأكلهم السحت” فالربانيون سُموا بالربانيين؛ لإنهم يدبرون شؤون أفراد الناس وشؤون عبادتهم، فالرب هو المدبر والرب هو المربي، وهو المعنى الثاني من معاني الرب فيما يخص فعله سبحانه ومنه أُخذ “وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن” فالربيبة: بنت الزوجة سميت بذلك لأن الذي يربيها زوج أمها؛ لأنها تتربى في حضنه. “الحمدلله رب العالمين” الرب المالك الرازق من مَلَكَ ودبّر وربّى يلزم من ذلك الرزق أن يرزقهم ويكلأهم فلا يستحق أن يُعبد إلا هو.
فالله رب العالمين له السؤدد… له الملك…له التدبير، وهو المربي، أفعاله وتربيته على حسب همة ونهمة المكلفين في توجُّهُهم لرب العالمين فالله يربي عوام الناس والخلق كافرهم وفاسقهم و مؤمنهم وعابدهم على حالهم ويدبرهم على حال، ويدبِّر ويربِّي أوليائه على حال آخر، بعض الخلق يكثر الطاعات، فالحسنة تجر إلى حسنة فتتسع الحسنات “احفظ الله يحفظك” فيكون الإنسان محفوظاً برعاية الله وتدبيره، فبعض الخلق لو أراد أن يعصي الله ما استطاع وبعض الخلق لو أراد أن يطيع الله ما استطاع وهذا وذاك يدخل تحت التدبير والتربية وعلى حسب نهمة وهمة العبد تقع نوع التدبير ونوع التربية “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة” فالله عزوجل يربي عباده، يربيهم ويشعرهم بأنهم بحاجة إليه؛ لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “عجباً لأمر المؤمن فإن أمره كله خير إن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له وليس ذلك إلا للمؤمن” المؤمن يرضى عن الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي: “من رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط” أمر الله وتدبيره وتربيته قائم، المؤمن يتلذذ بما يبذل بطاعة الله والفاجر الذي لا يفهم أن الله مدبر ومربي فحالهم كما قال الله عزوجل: “ومنهم من يعبد الله على حرف فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإذا أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة” فالمؤمن إن أصابته شدة يرضى عن الله، يعلم أن الله يربيه، هو يفهم أن الله هو السيد… هو المالك…هو المدبر… هو المربي، فهو سبحانه يفعل ما يشاء.
لذا لله في تربية عباده سنن وقواعد، رباهم بشرعه ورباهم بقدره فكان قدره لا يُغلب، وترْك أمر شرعه إلى استجاباتهم، أمرهم ونهاهم وترك الأمر لاختيارهم، فكان الإبتلاء العظيم. نأخذ مثال:
المال:- وضع الله حب التملك في الإنسان فيقول الله: “وتحبون المال حباً جما” والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “فتنة أمتي المال” فالمال فتنة قلَّة وكثرة، الفقير والغني مفتونون، فالله عزوجل في خلقه وقدره جَبَل وجعل غريزة حب المال في الإنسان وفي النفوس شح، والشح هو أشد البخل، الله قال: “ومن يوق شح نفسه فقد فاز” كل نفس لها شح وجعل الفوز بأن تتقي شح نفسك؛ فلذلك صلة بين التربية والتدبير والملك والسؤدد، صلة بين قضاء الله في قدره وقضاء الله في شرعه؛ لذا الله لمّا ربّانا في أن نبذل في سبيله تدرج معنا، فكانت نِعْمَ التربية فالله عزوجل قال: “لله ما في السموات والأرض” ثم قال بعدها: “لله ملك السموات والأرض” ثم بعدها أخبر البشر أن ما يملكونه هو لهم لكنهم يموتون فيرجع إليّ، فقال الله بعدها: “لله ميراث السموات والأرض” ثم قال الله بعدها: “إنه رزقكم” ثم قال: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه” ثم بعدها قال: “من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً” هذا التدرج في التربية حتى تنسلخ النفس من شحها وحتى يبقى المال وسيلة ولا يصبح غاية ولا هدفاً وحتى تبقى النفوس أوسع من المال، إذا كان صاحب المنصب نفسه أوسع من منصبه وأوسع من ماله فالأمة تهنأ بهذا المنصب، إذا كان المال والمنصب أوسع من نفس صاحبه فالأمة تشقى بهذا المال والمنصب.
فالذي ينظر في هذه المراحل يعلم أن الله يربي، فمن تمام تربيته لنا أنه ما تركنا هملا، فجعل له آيات في كونه وأنزل علينا آيات، فآياته الأولى منظورة وآياته الأخرى مسطورة في الكتاب وهذه مع تلك يقع بهما تمام التربية وتمام التدبير، فأنت لما تقول الله عزوجل هو الرب بمعنى هو المالك وأنه السيد المطاع وانه المربي وأنه المدبر، فالمدبر والمربي تخصان أفعاله سبحانه والمالك والسيد تخصان ذاته سبحانه، فكل ملك وكل سؤدد له، فإن أعطاك الله شيئاً فأنت تملكه، فالمخلوق يجوز أن تقول له: رب الدار، لكن الرب لا تكون إلا لله، والفرق بين رب والله الرب: هو أن الله هو المالك الحقيقي للأشياء وهو الذي ترجع إليه الأشياء وهو الآخر وهو الرازق وأنت لا تملك ملكاً حقيقياً، فملك الإنسان للأشياء لا يسبقها خلق ولا يجوز له أن يتصرف فيها بما يشاء وأنه يتصرف فيها وفق الشرع أما ملك الله فسبقه خلق ويتصرف فيه بما يشاء، هذا الفرق بين قولنا: فلان رب كذا وأن الله عزوجل هو الرب، الله رب ومالك ومدبر وله السؤدد على العالمين والعالمون ما عدا الله سبحانه وتعالى، السموات ومن فيها والأرض ومن فيها وما بين السموات والأرض ومن فيها جميع المخلوقات من إنس وجن وملائكة. قال الله في سورة الشعراء في المحاورة بين موسى وفرعون: “وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما فيهن إن كنتم موقنون“، فالله مالكهم وسيدهم ومدبرهم ومربيهم، وذكر صفة رب العالمين بعد لفظ الجلالة تدخل على القلب مهابة وإجلال وتعظيم لله عزوجل إذ في هذا إنفراد لله سبحانه وفيه تمييز بين الخالق والمخلوق، فالله عزوجل يمتاز عن غيره بهذه الأشياءالأربعة: الملك والسؤدد والتربية والتدبير، وهذا معنى الرب في اللغة، فلما تقرأ: “الحمدلله رب العالمين” حب مع إجلال وخضوع، والحب مع الخضوع هو عبادة وهذا كله تمهيد لأن تحقق العبودية والاستقامة لله وبالله، ولذا لما يقول العبد: “الحمدلله رب العالمين” يقول له الله جل في علاه: “حمدني عبدي“