الاستعاذة

فوائد حول سورة الفاتحة: بداية الإستعاذة، والإستعاذة والبسملة كما يقول العلماء: عياذةٌ ولياذة. تعوذ بالله من الشيطان الرجيم،وتلوذ بالله سبحانه وتعالى، وأعوذ أي أحتمي وألتجأ، وكان من عادة العرب أن الرجل إن قتل آخر يهرب فيلتجأ ويعوذ بقبيلة ذات شوكة ليحمي دمه من أولياء الدم الذين قتل واحدا منهم. فلما يقول العبد “أعوذ بالله” أي ألتجأ إليك وأسألك ربي بقوتك وجبروتك ومقدرتك على كل شيء أن تعيذني من هذا العدو وهو الشيطان الرجيم، وفي ذلك الإنسان ضعيف والشيطان ضعيف، وقد ذكر الله ذلك في سورة النساء: “وخلق الإنسان ضعيفا”، وقال عز وجل: “إن كيد الشيطان كان ضعيفا”. الشيطان عداوته معنا واجبة “إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوّا”، والمعركة قائمة في كل وقت، وتحتاج هذه المعركة لسلاح والسلاح هو العلم والتذكر والتبصر والصلة بالله، ولا ينجو أحد من الشيطان إلا برحمة من الله، ولذا يقول الإنسان قبل البدء بأي عبادة..قبل قراءة القرآن “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، فلا يمكن للعبد التغلب على الشيطان إلا أن يعوذ بالله وأن يلتجأ إلى حماه ويستنجد بقواه ومن غير ذلك لا يمكن للعبد أن يقوى على الشيطان.

وقد علّم الإمام تقي الدين السُّمكي ولده تاج الدين وهما من كبار أئمة الشافعية، علّم ولده درسا قال: يا ولدي لو كنت تسير في طريق فنبحك كلب ما كنت فاعلا؟ قال: ياأبت أرميه بحجر، قال: ثم نبحك؟ قال: أرميه بحجر، قال: ثم نبحك؟ ففطن الولد أن الوالد يريد أن يعلمه، فقال: ياأبت دلني ماذا أفعل؟ فقال له: ناد بأعلى صوتك وقل يا رب الكلب يا صاحب الكلب كف كلبك عن طريقنا. فأنت لما تقول : أعوذ بالله كأنك تقول: يارب كفَّ هذا عن طريقنا، فأنا ألوذ بحماك وألتجأ بقواك. فمثلا لمعرفة أهمية صراعنا مع الشيطان نأخذ مثال في العلوم العسكرية، يقولون كلما كانت المعركة قديمة ولها دهور وعصور كانت المعركة حامية الوطيس، وكلما كان العدو قريبا وكان عنده عنصر المفاجأة احتاج الجندي إلى يقظة وانتباه أشد، وكلما كان الشيء المتنازع عليه أثمن كانت المعركة أشد. عداوتنا مع الشيطان بدأت قبل أن تنفخ الروح في أبينا آدم، كان آدم كالفخار طاف ابليس حول آدم سبعا وقال له: والله لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك ولئن سُلِّطتَّ عليَّ لا أطيعنك، فالعداوة قديمة من ابليس، والشيطان لا يوجد عنده هدنة ولا فريق محايد، فمن لم يكن عدوا له فهو من حزبه ومن جنده.

فكما أمرنا الله بالصلاة والزكاة والحج، فالله أمرنا أن نتخذ الشيطان عدوا، وعداوتنا للشيطان لا تكون إلا باللياذة بالرحمن والذكر والقرب من الله جل في علاه، فالعبد الموفق الذي يدع الغفلة عنه ويستشعر أنه في معركة دائمة. فنحن نقاتل الشيطان ويقاتلنا على جنة الله وعلى رضا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”. والشيطان يهرب من الأذان كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال الرسول صلى الله عليه وسلم”أدبر وله حصاص” وفي رواية عند مسلم “أدبر وله ضراط” ثم يعود ويوسوس في الصلاة،والشيطان الذي يوسوس في الصلاة سماه النبي صلى الله عليه وسلم خنزب كما في صحيح مسلم. وهدف الشياطين يلتقي في أن يبعد العبد عن ربه ويقطع الصلة بالله، فإن حصلت الصلة بالصلاة فهو حريص إن لم تنقطع الصلة بالكلية أن تبقى الصلة باللسان ويفصل القلب عن اللسان أو العقل بالتفكر والتدبر عن القلب وهكذا، فمن يطيع الشيطان مشتت.

المطلوب من العبد التعوذ بالله من الشيطان. إبليس له مملكة وله جند وجنده رتب ومنازل كما صح من حديث جابر بن عبد الله في صحيح الإمام مسلم، قال جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن إبليس واضع عرشه على الماءويبعث جنده كل يوم فيأتيه جنده فيقول للواحد منهم ماذا فعلت؟ فيقول: أغويته فزنا، فيسكت فيقول: ماذا فعلت؟فيقول: أغويته فسرق، فيسكت فيقول: ماذا فعلت؟ فيقول: أغويته فشرب الخمر، فيسكت فيقول: ماذا فعلت؟ قال: أغويته فجعلته يطلق زوجته، فيفرح إبليس ويقول له: أنت أنت. وزاد الزهري في رواية عند مسلم قال: فيقوم فيعانقه ويلبسه التاج. فالتفريق والبعد والكراهية أكثر ما يفرح الشيطان هذا الشيء.

وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: “لقد يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب”. قبل البعثة المحمدية كان الناس في جزيرة العرب يعبدون الحجر والشجر، يصنعون الصنم من التمر فإن جاعوا أكلوه، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب “ولكن بالتحريش بين المصلين”، فكثير من الناس على أتفه الأشياء تجد تحريشا من الشيطان بينهم، ابليس واحد والشيطان جند ابليس، يمكن أن نقول عن الإنس شيطان ويمكن أن نقول عن الجني رجل “وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا”. الجن من فعل جَنَّ وفعل جَنَّ معناه التغطية، مثل الجنة سميت بالجنة لأن لأرضها مغطاة بالخضرة، والمجنون سمي مجنونا لأن عقله مغطى، والجنين سمي جنينا لأنه مغطى وغائب عنا، والمجن الذي يحمله المحارب ليتقي به السيوف والرماح سمي مِجَنّاً لأنه يغطي صدر صاحبه والجن سُمي جنا لأنه غائب عنا بيننا وبينه حجاب، وفي ذلك قال الشافعي رحمه الله: “من زعم أنه رأى الجن فهو فاسق ترد شهادته”.

يمكن أن نرى الجن بعد أن يتشكل وأما أن نراه على حقيقته التي خلق عليها فهذا مستحيل. وسمي إبليس ابليسا من الإبلاس ومعنى الإبلاس الإياس لأن الله يأَّسه من رحمته إلى يوم الدين، والشيطان من فعل شطن، العرب تقول: “بئر شطنها بعيد” فمعناها أنها بئر قعرها بعيد، فالشيطان من البعد، ويمكن للشيطان الإنسي أن يتوب ويمكن للشيطان الجني أن يتوب فإن تاب ورجع وأناب وأزال البعد بينه وبين الله خرج عن كونه شيطانا لأن الشيطان البعيد، لكن عادة الله تعالى أنه من أحاطت به خطيئته يصبح من القوم البور”وكانوا قوما بورا”، الذي يدمن على المعاصي ويكررها هذا قريب من الكفر، فبعض الناس والعياذ بالله من شدة خذلانه لنفسه وخذلان الشيطان له يصبح شيطانا ولا يقدر أن يعود؛ المسافة التي قطعها في البعد عظيمة.

العجب من أقوام يقولون: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وأُنسُهم وأنيسهم وجليسهم وحبيبهم والذي يؤاكلهم والذي يشاربهم بعيد عن الله عز وجل تارك للصلاة تارك لاوامر الله، والأدهى والأمَر أن تكون الزوجة والأولاد من هذا الصنف! تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأنت تسكن بين الشياطين، كل من كان بعيدا عن الله هذا من الشياطين، ينبغي فهم وتدبر ووعي معنى “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”. وفي قوله “كنا طرائق قددا” قال عكرمة: إن في الجن أصحاب أهواء كما في الإنس،ففي الجن خوارج وروافض وشيعة فالجن لهم مذاهب كما في الإنس. “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” العرب تطلق على المفعول فعيل فتقول عين كحيل ويريدون عين مكحولة، ويقولون كف خضيب ويريدون كف مخضوبة، وفعيل في العربية تفيد الدوام والثبات، وصيغة فعلان تفيد الكثرة، فالرجيم هو المرجوم، فإبليس مرجوم ملعون مطرود من رحمة الله وكل من يسير على منواله وينطوي تحت رايته فهو رجيم، ثبت في صحيح مسلم عن سلمان من قوله ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سلمان: “إن للشيطان راية ينصبها في الأسواق فلا يكن أحدكم أول من يدخل السوق ولا أخر من يخرج منه”.

نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم لأنه عدو لنا، ولتحقيق هذه العداوة نستعيذ بالله منه ونطمح برحمة الله بذلك. الشياطين تحارب العباد بفقه وحنكة وفهم فينبغي أن نحاربه بفهم وبتوفيق من الله عز وجل، أخرج الإمام النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن ابليس قعد لإبن آدم في أطرقه كلها فقعد له في طريق الإسلام وقال له أتترك دين آبائك وتسلم؟ قال فعصاه وأسلم، وقعد له في طريق الهجرة وقال له أتترك ديارك وأموالك وتهاجر؟ قال فعصاه وهاجر، قال وقعد له في طريق الجهاد وقال: أتقاتل وتُوزَّع أموالك وتنكح نساؤك من بعدك؟ قال: فعصاه وجاهد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل ذلك كان حقا على الله تعالى أن يدخله الجنة”. فإبليس قاعد لنا في الصراط المستقيم وبكل ألوان العبادة، وإبليس من حنكته يقسّم الناس إلى صنفين ويتعامل مع كل صنف بما يناسبه، وقد قال الله تعالى: “قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأُغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين”، صنف مجرد ما يزين له الشيطان يغويه مجرد ما رأى امرأة يفتح له باب الزنا، مجرد مصاحبة نلس سيئين يفوقهم فما أسهل أن يتعاطى الخمر، فهذا الصنف يتغلب عليه الشيطان بمجرد الإيحاء والوسوسة مباشرة يصبح من فريقه.

وصنف آخر لا تصلح له الوسوسة، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق هذا؟ فيقول: الله، فيقول له: من خلق هذا؟ فيقول الله، فيقول الشيطان: من خلق الله؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: من وجد ذلك فليتعوذ بالله وليتفل عن يساره وليقرأ سورة الإخلاص. وجاء الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يارسول الله إنا لنجد في أنفسنا أشياء لوددنا لو هوى أحدنا من السماء ولا يجدها” وفي رواية لمسلم “لوددنا لو أن أحدنا حُممة” وحممة يعني يحرَّق ويصبح فحما، ولا نجد هذه الأشياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوجدتم ذلك حقا؟ قالوا: نعم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن ذلك محض الإيمان، وفي رواية قال: الحمد لله الذي جعل أمرهم كالوسوسة، سئل علي رضي الله عنه كيف يكون ذلك محض الإيمان؟ فقال رضي الله عنه: “أرأيتم إلى اللص فإن اللص لا يطمع إلا في البيت النفيس”، فإذا رأيت في قلبك وسوسة ودفعت الوسوسة قلبك بيت نفيس ويطمع فيه الشيطان، فالموضوع موضوع وسوسة فأنت على خير فتعوذ بالله من الشيطان.

فضعيف الإيمان كثير الغفلة، مجرد ما يوسوس له الشيطان يصبح الشيطان صاحبه ومن حزبه، لكن الذين يصلون ويحرصون على الخير هذا لا ينفع معهم “لأزينن لهم في الأرض” هذا الصنف قال عنه الله في الأعراف “قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين” الصنف الأول إغواء وزينة، الصنف الثاني قاعد وجالس بتمكن وقوة قاعد للمتقين يتربص ويراقب.. معركة.. ينتظرك تغفل ينتظر متى يجعلك من حزبه، والشيطان له وسائل لا يجعلك منذ البداية كافر، فأول وسيلة للشيطان مع العبد أن يوسع عليه في المباحات، فتصبح العبادة عنده ثقيلة، وينهل قواه في الحلال، يكثر في الحلال في الطعام والجماع وتصرف القوى كلها في التوسع في المباح، فإن وقع الإنسان في التوسع في الحلال جعله يترك المسنون ويفعل المكروه، فإن فعل المكروه وأدمن عليه فعل الحرام فإن وقع في الحرام وقع في البدع، وإن وقع في البدع وقع في الكفر.

“ياأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان” فالشيطان له خطوة خطوة معك، فالشيطان له حنكة في الإيقاع بالعبد، لذا كان يقول العلقم بن قيس وهو أحد الزهاد وتابعي أهل الكوفة، كان يقول رحمه الله: “إني لأعمل الطاعة طمعا في أختها التي هي أكبر منها، وإني لأترك المعصية خوفا من أختها التي هي أكبر منها”. في الآيات “ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم” أصدهم عن فعل الطاعة بالطاعة فيشوش عليهم الطاعات بالطاعات، وفي هذه الآية فائدة عن ابن القيم رحمه الله يقول: الإنسان إذا أراد أن يفعل الطاعة، فبعض الناس قبل أن يفعلها يأتيه هاجس بتركها بأن يفتح عليه لونا آخر من ألوان الطاعات” مثال تقرأ قرآن فيذكرك بزيارة والديك أفضل من قراءة القرآن ونحو ذلك، هذا من معاني قول الله “ثم لأتينهم من بين أيديهم وعن أيمانهم” يشوش عليك بفتح ألوان الطاعات فيصدك عن فعل الطاعة، يقول بن القيم رحمه الله: من عزم على فعل طاعة فيأتيه هاجس بأن يصده عنها بفعل طاعة أخرى فلا يتزحزح عنها ” واحفظ الهاجس ولا تتزحزح عن فعل الطاعة وبعد أن تفرغ من الطاعة انتقل إلى الهاجس الذي جاءك، فإن جاءك هاجس آخر لاتترك الطاعة واثبت عليها ثم انتقل إلى الهاجس الآخر، قال: إن فعلت ذلك فإن ذلك الهاجس لا يعود إليك إلى يوم الدين.

فهذه محاربة للشيطان شرعية صحيحة نحاربه بالطرق الشرعية وليس بالعقل ومن ذلك قصة الأحمق الذي يأكل الملح في يوم حار في بغداد فمر عليه عالم وهو يأكل الملح فيعطش فيشرب الماء، قال له العالم: ماذا تفعل؟ قال: أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا أكل وسمى الله أو شرب وسمى الله فإن الشيطان لا يأكل ولا يشرب معه، وإن أكل وشرب ولم يسمي الله فإن الشيطان يأكل ويشرب معه، فأنا آكل الملح في هذا الحر ولا أسمي، فيأكل الشيطان معي فأعطش وأشرب وأسمي فلا يشرب الشيطان معي، فأريد أن أقتل شيطاني عطشاً. هذا فعل من الشيطان، على وزن هذا الفعل الشيطان يكون في الفُرج بين المصلين كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس مثل ذاك الأحمق يقول الشيطان: إذا ما كان بين الفرج يكون بين أرجلنا، هذا كلام عقل والعقل يُسَلِّم ما له وزن في الغيب فيكون الشيطان بين الفجوات التي بيننا. جمع الله في ثلاث مواطن في كتابه كيف ندرأ عنّا عداوة الإنسان وهذا ما سيكون في الدرس القادم. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.