الحمد لله

درسنا في قوله تعالى:” الحمدلله رب العالمين، قولك:” الحمدلله رب العالمينإنما هو من قول الله رب العالمين، فتحمده بقوله. ومدار الشريعة وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه إنما هو حمد لله، فما من عبد يحمد الله تعالى إلا ويذكره الله في الملأ الأعلى كما في حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” قال الله تعالى:”إني قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: الحمدلله رب العالمين، قال الله: حمدني عبديإلى آخر الحديثويقول الله عزوجل: حمدني فلان فلا تختلط عليه سبحانه الأصوات ولا تختلف عليه اللغات، فأحب الكلام إلى الله ما جمع بين خير الدعاء وخير الذكر، فقد ثبت عند الترمذي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – قال: قال صلى الله عليه وسلم:” خير الدعاء الحمدلله رب العالمين وخير الذكر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قديرفالدعاء قسمان: دعاء ثناء ودعاء مسألة، دعاء المسألة: أن تتوجه بقلبك لربك فتسأله ما تريد من خَيرَي الدنيا والآخرة، والأرفع من دعاء المسألة: دعاء الثناء، ومن أَجَلّ أنواع الثناء قولك:” الحمدلله رب العالمين؛ لذا صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قديرفخير القول هو ما جمع بين خير الذكر وخير الدعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم كما أن كتابه مُبتدأ بالحمد خُصَّ بمنزلة عند ربه على سائر إخوانه من النبيين إنما هو بالمقام المحمود والناس يجتمعون تحت لواء الحمد بقيادته صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل الجنة أمة محمد وأول من يدخل من أمة محمد الجنة الحمّادون.

لذا الحمد من الأشياء التي يحبها الله عزوجل ويرضاها، الله يعطي العبد ويحب له أن يتمتع لكن لا يحب له أن يغفل بل يظل دائماً ذاكراً، ومن أشراط الساعة أن يكثر الطعام ولا يُذكر اسم الله عليه لا في الابتداء في البسملة ولا في الإنتهاء بالحمد، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” إن الله لا يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها وأن يشرب الشربة فيحمده عليهاوثبت في جامع الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” من أكل أكلة فقال: الحمدلله الذي أطعمنيه وسقانيه من غير حول مني ولا قوة إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فالحمد منزلته عند الله عزوجل عظيمة جداً ولذا ثبت عند ابن ماجة أن العبد إن قال: الحمدلله فإن ملكاً يصعد إلى الله ويقول: يا رب إن عبدك فلان قد حمدك، فيقول الله عزوجل: اكتبوا لعبدي ما قال وأنا أجزيه به يوم القيامة، فلا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل ثواب الحمد على وجه الإستقصاء إنما أمره لله، فالحمد بين الأقوال كالصيام بين الأفعال، فما أحسن أن يكون العبد حمادً؛ ولذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أننا مأمورون أن نشكر من يحسن إلينا في الدنيا وقال النبي صلى الله عليه وسلم:” من لا يشكر الناس لا يشكر اللهفإن أحسن إليك أحد فالمطلوب منك شرعاً أن تشكره، فالشكر أنواع وأقله الدعاء؛ لذا كان الحاكم النيسابوري في الحاكم المستدرك يقول: عيب على من يأخذ ديننا ولا يدعو لنا، فالمطلوب من الإنسان في أي نوع من الإحسان أخذه من صاحبه أن يدعو له وهذا خلق عظيم دلّ عليه القرآن الكريم في أول آية تقول: الحمدلله رب العالمين .

الله عزوجل أخبرنا بمدحه على الوجه الذي يحب ويرضى؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب ذاته ويحب نفسه ولولا أن الله يحب نفسه ما أنزل لنا كتباً ولا أرسل لنا رسلاً، فقولنا: الحمدلله رب العالمين أثر من آثار محبة الله لنفسه سبحانه وتعالى. كل حمد مدح وليس كل مدح حمد، فالمدح مع الحب هو الحمد فإن لم يوجد الحب مع المدح كان حمداً مجرداً فإن تكرر الحمد وأكثر الإنسان منه فهو ثناء. لا يوجد في اللغة العربية كلمتان بمعنى متطابق لكن يوجد كلمات في اللغة العربية بمعنى متماثل، وإعجاز القرآن الكريم لم يكن بحروفه ولا بكلماته ولكن القرآن الكريم معجز بأسلوبه وبيانه فكل كلمة في السياق كاللَّبِنَة في البناء ما يخرج منها شيء، إذا وقع تقديم أو تأخير أو جمع أو إفراد أو تثنية أو إظهار الضمير أوإخفائه لكل هذا أسرار ولا يعرفها إلا أهل اللغة، والعربي إن فهم اللغة فهماً صحيحاً فإن القرآن يأخذ بقلبه. النبي صلى الله عليه وسلم في بداية البعثة في مكة يقرأ وكفار قريش يستمعون فيعودوا ويتواصَوا بينهم ألا يعودوا فيعودوا فما كانوا يجدون لذة ولا نشوة ولا راحة ولا طمأنينة مثل ما يجدوا في القرآن وسر بعدنا عن القرآن أننا أصبحنا أعاجم بلغتنا وفهمنا وأخلاقنا إلا من رحِم ربي، فالحمد مدح وحب ولا يحمد أحدٌ الأركان أحدا إلا مع الحب لكن قد يقع مدح دون حب. العبادة لها ثلاثة أركان فإذا وجدت هذه الثلاثة بأصولها ومقاديرها واجتمعت في قلب العبد فلابد أن ينتج عنها عبادة، فإذا ما تولدت العبادة فإما أن يكون شيء من هذه الأصول الثلاثة مفقود إما بأصله وإما بمقداره.

قصة الشاب الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يشكو بطن أخيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اسقه عسلا ثم جاء في اليوم الثاني فقال صلى الله عليه وسلم: اسقه عسلا, ثم جاء في اليوم الثالث فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أخاه لم يبرأ, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسقه عسلا, ثم أخبر الرجل أن أخاه قد عافاه الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك. قال شرّاح الحديث: هذا الشاب أخذ أصل الدواء ولم يأخذ مقداره فبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقول له اسقه عسلا, فالدواء حتى يقضي على الداء يحتاج أن يصيب أصلا ثم بالمقدار, وكذلك القلوب حتى تبقى في حياة وتستجيب لأمر الله لما يحييها في الدنيا والآخرة فلا بد أن يجتمع فيها ثلاثة أشياء وهي مأخوذة من أول ثلاث آيات في الفاتحة. ولذا أوجب الله على عباده قراءة الفاتحة باستمرار حتى يبقى القلب يستمد غذاءه منها. وهذه الأشياء الثلاثة رأسها المحبة, مثّل بعض العلماء العبادة بالطائر له رأس وجناحان, فرأس العبادة المحبة وجناحا العبادة الرجاء والخوف, “الرحمن الرحيمفيه رجاء, ومالك يوم الدينالخوف, كل من يحب الله حبا شرعيا صحيحا مع رجاؤه وخوفه فهذا عابد لله, كل من تتعطل العبادة عنه إما أن يرتفع عنه الخوف أو المقدار اللازم للخوف, أو الرجاء أو المقدار اللازم للرجاء, أو المحبة أو المقدار اللازم للمحبة.

أهل الإدارة في الدنيا كالتاجر وصاحب المصنع والموفق في عمله هو الذي يعمل عمل يحبه, فمن يعمل عمل يحبه لا ينقطع عنه, بخلاف الذي يطمع فلا ينجح الذي يعمل ويحب العمل هو الذي ينجح, فمن عبد الله وغلبت عليه المحبة ما ينقطع, ومن عبد الله وغلب عليه الخوف أو الرجاء ينقطع. فالذي يقوده الرجاء له الأجر لكن ينقطع, كالمسلمين في رمضان يصلون القيام، يسمعون من الشيوخ عن رمضان وفضل القيام به فيقومون لكن بعد رمضان ينقطعون، لكن الذي تقوده المحبة لا يمكن أن ينقطع ولذا لم يعرف عن صحابي واحد أنه بدأ بطاعة وانقطع عنها وإنما يبقى عليها إلى يوم الدين. الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام يقول: عمل الطاعة والإنقطاع عنها منهج بدعي وليس منهج أهل السنة، إن فعلت عبادة اثبت عليها، إذا كان الباعث على العبادة المحبة فإن صاحبها لا ينقطع؛ لذا قال الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:” فإذا فرغت فانصبأي إذا فرغت فاتعب لا تنقطع عن العمل، وكان صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة: يقوم الليل ويطيل القيام حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة: يا رسول الله ألَمْ يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً؟ عائشة تنظر للرجاء والخوف فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بمقام الحمد، فلما كانت المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم هي الباعث على العبادة ما انقطع عن قيام الليل.

فقول الحمد لله رب العالمينيقول في هذه الآية شيخ الإسلام في منهاج السنة: دليل على أن الله تعالى يحب نفسه ومن حبه لنفسه أنزل علينا هذه الآيات وأنت تحمد ربك بكلامه وفي هذا إشارة إلى الله هو المحمود والعباد هم الذين يحتاجون إلى الحمد وإن لم يحمدوه فهو غني عنهم. ورد الحمد في كثير من النصوصنحمد الله عند الأكل والشرب ونحمد الله عند الإستيقاظ من النوم الحمدلله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشورونحمد الله عزوجل عقب الصلاة من سبح الله ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاُ وثلاثين ثم قال في تمام المئة: لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في دبر كل صلاة غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحرالحمد له أسرار عجيبة وتعطي البدن قوة غريبة دلّ على هذا حديثان، الحديث الأول هو كالكنز وسر توفيق العبد في العبادة وحتى في العمل الدنيوي، كان علي رضي الله عنه مضيافاً وكان فقيراً، كلمت فاطمة زوجها علي أن يخبر أباها صلى الله عليه وسلم أن يجعل لها خادمة تعينها على البيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاها دواء خيراً من الخادمة فقال لها: “يا بُنَيّة إذا أخذت في فراشك فاحمدي الله ثلاثاُ وثلاثين وسبحي الله ثلاثاُ وثلاثين وكبري الله أربعاً وثلاثينفي هذا الحديث قدّم الحمد على التسبيح، يقول شيخ الإسلام: بلا شك أن النبي دلها على ما يغنيها عن الخادمة فهذه الكلمات لها سر تعطي العبد في النهار نشاط وقوة في العمل لا يمكن لأحد أن يفعله.

النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الترمذي وابن ماجة في حديث أنس يقول:” من رأى مبتلى فقال: الحمدلله الذي عافاني مما ابتلاه به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا وإن أصابه ما أصابه إلا ويعافيه الله عزوجل منهفإن أُصِبت بأي داء مهما كان ودعوت بهذا الدعاء تُشفى منه بإذن الله تعالى مهما كان، سر من الله جلّ في علاه أخبر عنه الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فكلمة الحمدلله كلمة لها سر عجيب الحمدلله رب العالمينالألف واللام في الحمد تعني الجنس حمد مفرد الذي دخل على المفرد تفيد العموم فعموم الحمدلله واللام للفظ الجلالة للهتفيد الإختصاص فعندما تقول: الحمدلله فكأنك تقول: الحمد كله مختص بالله ويفيدنا أن العبد لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله؛ لأن الألف للعموم والحمد مختص لله، فكل حب مع ثناء يقع من المكلف إنما هو محاط بالسياج العام، بمعنى آخر المؤمن لا يعرف النفاق ولا ينافق، المؤمن الذي يريد أن يجد حلاوة الإيمان في قلبه كما قال صلى الله عليه وسلم:” ثلاثة من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يحب العبد لا يحبه إلا لله وأن يبغض لا يبغضه إلا للهكأن تبغض أخيك من لحمك ودمك لله، وأن تحب البعيد في الله فهذا ثمرة قول العبد الحمدللهولذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” أوثق عُرى الإيمان أن تحب في الله وأن تبغض في الله وأن تعطي لله وأن تمنع للهوهذا مأخوذ من الحمدلله، وهي فائدة مأخوة نتيجة لمقدمتين: الأولى الألف واللام للعموم للجنس والمقدمة الثانية اللام المسبوقة بلفظ الجلالة فهذه اللام إنما هي للإختصاص، فالحب كله مختص به الله هذا السياج الذي يحوط كل حب.

الحب في القرآن مقرون تارة بالزمان وتارة بالمكان، قال الله عزوجل:” وله الحمد في السماوات والأرضهذا حمد مقرون بالمكان، وقال الله عزوجل:” له الحمد في الأولى والآخرةهذا حمد مقرون بالزمان، أما الفاتحة فهي مطلقة، الحمد في سائر القرآن له مُتَعَلَّق أما في الفاتحة فلا مُتَعَلَّق له، في القرآن أربع سور غير الفاتحة تبدأ بالحمد وهذا الحمد له مُتَعَلَّق، في سورة الأنعام الحمدلله الذي خلق السماوات والأرضفمُتَعَلَّق الحمد في خلق السماوات والأرض، وفي سورة الكهف الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجامُتَعَلَّق الحمد بإنزال الكتاب بصفة لم يجعل له عوجا والموطن الثالث في سورة سبأ الحمدلله الذي له ما في السماوات والأرضفمُتَعَلَّق الحمد في سورة سبأ الملك، والموطن الرابع في سورة فاطر الحمدلله فاطر السماوات والأرضفاطر: هو الذي يخلق الشيء على غير مثال سابق، والخلق على مثال سابق، فالحمد مذكور في أوائل سورة القرآن له مُتَعَلَّق و مُتَعَلَّقه الخلق والملك والإيجاد على غير مثال سابق وإنزال الكتاب، أما مُتَعَلَّق الحمد في الفاتحة غير مذكور حتى ينصرف الحمد بجميع أشكاله إلى الله عزوجل فالحمد في الفاتحة لا حدّ له.