مالك يوم الدين

العبادة لها ثلاث أركان:- رأس الطائر المحبة، جناحا الطائر الذي يطير بهما وهما الرجاء والخوف، واختلف أيهما يقدم الرجاء أم الخوف؟ والصواب: الأمر يختلف باختلاف أحوال الشخص. الشاب في أوج شبابه وقوته يميل للخوف حتى يردعه خوفه عن الوقوع في المحذور، فإذا أحاط بالإنسان مخايل الموت شاباً أم كبيراً يقدم الرجاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، لو وقفت عند أحد تحبه وتعرفه وهو في النزع (أي سكرات الموت) يحسن ويجدر بك أن تذكره بصالح عملهأنت فعلت وفعلت؛ وهذا ليوسع الرجاء على قلبه، ساعة لقاء الله ساعة شديدة. الإنسان الكبير يبتعد عن الشهوات لكبر سنه وضعف قواه، يغلب الرجاء على الخوف، والشاب يغلب الخوف على الرجاء، ومن اجتمعت في حقه مخايل الموت وشعر أن أجله قريب يحسن به أن يغلب الرجاء على الخوف، فالأصل في المؤمن حتى يحقق العبودية لله أن يحقق هذه الأمور الثلاثة:- المحبة مع الإجلال مأخوذة من الحمد لله رب العالمين، والرجاء المأخوذة من الرحمن الرحيم، والخوف المأخوذة من مالك يوم الدين، إذا وُجد في قلب العبد المحبة مع الرجاء مع الخوف بالمقادير الشرعية اللازمة يستحيل ألا تقع العبادة الحق لله تعالى، وكل قصور يقع في العبادة إنما هو خلل في أصل هذه الأمور الثلاثة إما في أصله وإما في مقداره.

العبد المؤمن تمر به حالات يغلب الخوف وتمر به حالات يغلب الرجاء، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: لو نادى منادٍ من السماء يا أهل الأرض كلكم في النار إلا واحد لطمعت أن أكون أنا من أهل الجنة، ولو نادى مناد من السماء يا أهل الدنيا كلكم في الدنيا إلا واحد لخشيت أن أكون أنااجتمع في قلبه الحب والرجاء على وجه التمام والكمال فحقق العبودية الحق لله عزوجل. أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول: “لو كانت إحدى قدماي في الجنة والأخرى خارجها لما أمنت مكر اللهلذا مر الرسول صلى الله عليه وسلم على شاب في النزع (سكرات الموت) فقال صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب: “كيف أجدك؟ فقال الشاب: يا رسول الله إني لأرجو وأخاف، إني لأرجو رحمة الله وأخاف الله عزوجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا يجتمعان إلا في قلب العبد المؤمنوهناك الكثير من الآيات نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليمفالله عزوجل رجانا وخوفنا حتى نبقى نعيش بين الخوف والرجاء وليس هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هذا شامل لجميع الأنبياء، قال الله تعالى: “ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليميحذر الآخرة (الخوف) ويرجو رحمة ربه.

وحتى تبقى المحبة والرجاء والخوف في قلبي فإن الله عزوجل أمر بقراءة الفاتحة في كل ركعة وباستمرار، القلب يُغذّى بمحبة وخوف ورجاء؛ لذا قال الله عزوجل: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكرفالذي يقرأ الفاتحة ولا يفهم يصلي كذابيصلي سارقيصلي مجرم؛ لأنه ما اجتمع في قلبه هذه الأشياء الثلاثة، من عبد الله بمحبة فقط فهو زنديق ومن عبد ربه بالرجاء فقط فهو مرجيء، المرجئة يقولون: الإيمان التصديق إيمان الملك وإيمان الزاني سيّان لا أثر للمعصية على الإيمان، أهل السنة يقولون: المعصية والكبائر بريد للكفر، المعصية لها أثر على الإيمان والإيمان يزيد وينقص، والذي يخاف فيعبد الله بالخوف فقطهؤلاء خوارج الذين يكفرون الناس، أهل السنة تجتمع في قلوبهم عبادة الله بالخوف فيردعون والرجاء فلا يقنطون من رحمة الله عزوجل وبالمحبة. فإذا كان غالب على العبد المحبة والمحبة هي التي تسوقه للعبادة فإن صاحب العبادة لا ينقطع ولا يمل ولا يكل ولا يتعب؛ لذا الذي يسوق الأنبياء والأولياء والصلحاء للعبادة هي المحبة، لكن مع هذا قال فيهم عزوجل: “يدعوننا رغباً ورهباًأي رجاء وخوف، فالعبد ينبغي أن يكون حاله هكذا.

الطائر إذا انقطع إحدى جناحيه هبط ولا يستطيع أن يطير بجناح، لابد أن يطير بجناحين، فالإنسان في رمضان لما سمع الأجر عند الله في هذا الشهر وما له من ميزة فهو يزداد في العبادة في ذلك الشهر، لكن لو قادته المحبة حاله هوهو في كل الأيام وما تغير. كل قصور في العبادة إنما مرده إلى هذه الأركان الثلاثة؛ لذا قال الله عزوجل في الحديث القدسي: “إني قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين إذا قال: الحمدلله رب العالمين قال الله عزوجل: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله عزوجل: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله عزوجل: مجدني عبديوفي رواية عند مسلم فوّض إليّ عبدي، العبد شعاره الحمد والحمد يحتاج إلى كيفية وكمية، والكيفية هي الاستمرار والتكرار، فإن كرر الحمد أصبح ثناءً ومن أثنى طمع، فالفاتحة أقسام قبل أن تصل إلى الغاية والمراد من خلق الله للعباد، قبل إياك نعبد وإياك نستعين كله حمد مع تكرار، وكيفية الحمد تمجيد فإن قال: مالك يوم الدين، قال الله عزوجل: مجدني عبدي، والمجد هو كمية الحمد، والشيء كلما كبر وعظم زاد مجده؛ لذا بعد قول العبد مالك يوم الدين مجدني أو فوض إليّ أي خرج من قوته فالله مالك يوم الحساب والجزاء، قال الله عزوجل في سورة النور: “يومئذ يوفيهم الله دينهم الحقأي يوم القيامة الله يحاسب.

الله أخبرنا عن رجل صديق له قال: “أئنك لمن المصدقين، أئذا كنّا تراباً وعظاماً أئنا لمدينونهو واحد ملحد يقول لصديق مؤمن: أئنا إذا متنا سنبعث ونحاسب من قبل الله هذا هو مدينون، فمالك يوم الدين يعني مالك يوم الحساب، فالحمدلله أن جعل الله لعباده يوماً يحاسبهم فيه وهذا من عدله. رأى رجل أعرابي ظالماً قد مات ولم يجازى فقال: إن هنالك يوم يأخذ المظلوم حقه منه، يعني الله الذي خلقك عادل وأنت مت قبل أن تؤخذ المظلمة منك، لابد أن تبعث فالأعرابي دون أن يحفظ آيات وعلم أن الله عادل أدرك أنه لابد أن يأتي يوم يقتص من الظالم. ومن معاني الدين في القرآن والسنة واللغة: العادة، الأعمال والأقوال التي تكون في عادات الإنسان؛ لذا قال الله عزوجل في سورة يوسف: “وما كان ليأخذ أخاه في دين الملكأي في عاداتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عظيممعنى الدين هنا: الأفعال التي يمارسها والأقوال التي يقولهاسمته وعاداته، يجوز قراءة مالك يوم الدين وملك يوم الدين وهما قراءتان متواترتان، فالله مالك وملك، كما قال الله عزوجل: “ملك الناس“.

هناك لفتة مهمة في الآية وهي أن النبي أخبرنا أن الله عزوجل كتب في كتاب عنده أن رحمته سبقت غضبه، الله سبحانه لمّا رجّانا قال: “الرحمن الرحيمولمّا خوّفنا لم يقل شديد البطششديد العذاب، لم يقل القهارالمنتقمالجبار، لمّا كان الأمر أمر رجاء ذكر سبحانه اسمين من أسمائه ولمّا كان الأمر أمر تخويف أرجأ الأمر إليه يوم حسابه ولقائه ولذا العبد إن خاف شيئاً فرّ منه إلا الله سبحانه وتعالى فإن خفته فررت إليه كما قال الله عزوجل: “ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبينفالعبد إن خاف من الله فرّ إليه، الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: ذكر الله في آية الأمانة إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماًفذكر الله سبحانه فيها ثلاثة أصناف من الناس:-

  1. من حمل الأمانة في الظاهر دون الباطن وهؤلاء هم المنافقون، في ظاهره استسلم لكن في باطنه ما استجاب لله.
  2. من ردّ الأمانة في الظاهر والباطن وهم الكفار.
  3. من حمل الأمانة في الظاهر والباطن وهم المؤمنين.

فالمنافقون جزاؤهم في الدرك الأسفل من النار، والكفار خالدين مخلدين في النار إلى الأبد وأما المؤمنون فقسمان من المؤمنون هم أصحاب معاصي وهؤلاء أمرهم إلى الله فهم تحت المشيئة إن عاملهم بعدله هلكوا وإن عاملهم بفضله نجوا، فإن عاملهم بعدله يعذبهم في النار على قدر معاصيهم، فمن الناس النار على قدر ركبتيه ومنهم النار إلى وسطه ومنهم من هو إلى ترقوتيه ويعذبون في النار حتى يفحموا، ثم يؤخذون ويرمون على نهر في الجنة يسمى نهر الحياة وينبتون كما تنبت الحبة في السيل.

\لذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من قال: لا إله إلا الله دخل الجنةلا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يعذب هو يدخل الجنة في المآل ولا يلزم أن يدخل الجنة في الحال، فالعبد قد قصّر في الواجبات وقد فعل المنكرات والمحرمات وكان موحداً ولم يفعل ناقضة من نواقض الإيمان فهذا أمره إلى الله لكن هو في الجنة في المآل بعد أن يطهر من معاصيه في النار يدخل الجنة إلا أن يعفو الله عزوجل عنه ويرحمه سبحانه فالأمر إليه. في الآية إشارة مهمة إلى أن الإيمان باليوم الآخر هو المحرك الدائم للقلب في الاستقامة لله عزوجل، فالعبد إن بقي يتذكر الموت والحشر والبعث والجنة والنار فهذا من أسباب استقامته على أمر ربه سبحانه وتعالى، فمتى نسي العبد ذلك ما أسهل أن يقع في المعصية، فالله حتى يربينا فهو رب العالمين طلب منّا أن نتذكر في كل ركعة أن الله هو رب العالمين وأن الله سيحاسب العباد، فالذي يعمل ويرى مسؤول العمل على رأسه لا يقصر ولله المثل الأعلى، فمن أسباب تزكية النفس ألا ننسى الآخرة.

هناك أمرين كلاهما يؤخذ من التضمن، الأمر الأول لما تقول: “مالك يوم الدين“: في الآخرة يقول الله لمن الملك اليوم لله الواحد القهارالنبي صلى الله عليه وسلم في البخاري يقول: “إن الله يقبض الأرض بيده ويطوي السماء ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ويقول سبحانه: “مالك يوم الدين؛ لأنه قد يوجد في الدنيا من ينازع الله في ملكه، أما الآخرة فيأتيه كلٌّ فردا، كل الناس سواسية، و مالك يوم الدين؛ لأنه سبق ذلك قوله سبحانه: “رب العالمينورب العالمين هو رب الدنيا فنبههم سبحانه بعدها أنه مالك يوم الآخرة هذان جوابان للعلماء أن الله قال: مالك يوم الدين ولم يقل: مالك الدنيا، وفائدة ثانية: أنه كما ذكرنا أن الفاتحة تتضمن الإيمان بالأركان الستة ومنا الإيمان باليوم الآخر وهي مالك يوم الدين، ونزع بعض أهل العلم من مالك يوم الدين أنه يتضمن الإيمان بالرسل والأنبياء؛ لأن الإخبار بيوم الدين لا يكون إلا عن طريق الرسل والكتب ولا يذكر إلا على لسان الرسل وفي الكتب. فالفاتحة للآن تتضمن الإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والرسل والملائكة؛ لأن الملائكة هي التي تنزل الكتب على الرسل فبقي الإيمان بالقضاء والقدر سيظهر في الآية الأخيرة.