مقدمة في تفسير سورة الفاتحة 1

لحكمة عظيمة أوجب الله تعالى على المسلم أن يقرأ الفاتحة في اليوم والليلة 17 مرة ذلك ليحقق العبد العبودية لله من خلال معاني الفاتحة ومن لم يحقق معاني الفاتحة لا يمكن أن يكون عبداً لله. فاتحة الكتاب من الأهمية أن نتدبرها وأن نقف عند كل حرف منها ونجهد في فهم مراد الله عزوجل منها. من أبرز المعالم التي تعين على فهم مراد الله من الفاتحة الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”قال الله تعالى: إني قسمت لصلاة بيني وبين عبدي نصفين”، فسمى الله تعالى الفاتحة الصلاة؛ فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وهذا معلم يجعلنا نقسم الفاتحة نصفين؛ لفهم المعاني المجملة للفاتحة. (فإذا قال: الحمدلله رب العالمين: قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم: قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله تعالى: مجدني عبدي)، هذا القسم الأول وهو يدور حول المدح والثناء والتمجيد وهذا يحتاج التفريق بينهم، فإن حمدت الله وأثنيت عليه ومجدته تكون أخذت النصف الأول من الفاتحة، وفي تتمة الحديث (يقول الله عزوجل: فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). تكون لك الهداية بعد الحمد والثناء والتمجيد ويكون ما بينك وبين الله عامراً فلا يمكن لعبد أن يكون في الصراط المستقيم إلا أن يسبق ذلك العبادة والاستعانة، ولا يمكن لعبد أن يكون على الصراط المستقيم وهو لم يسلك سبيل الذين أنعم الله عليهم، كل حلقة تأخذ بالذي بعدها فلا يمكن أن نقفز عن أمر في سورة الفاتحة فهي أشياء يتبع بعضها بعضاً.

علماء الطب يقولون: ليقع الشفاء في الدواء لابد من أخذ الدواء المناسب لكل مرض، وأخذ المقدار اللازم من الدواء للمرض، ودل على ذلك حديث: “جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي يشكي بطنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أطعمه عسلاً، فشرب عسلاً، ثم جاء فقال: يا رسول الله إن إخي يشكي بطنه، فقال له صلى الله عليه وسلم: أطعمه عسلاً، فأخذ عسلاً ولم يشفى، فجاء للمرة الثالثة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي يشكي بطنه، فقال له صلى الله عليه وسلم: أطعمه عسلاً فشرب العسل فبريء” قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية والثلاثة أطعمه عسلاً؛ لإن الدواء أصاب الداء، لكن لم يتحصل المقدار اللازم للشفاء بعد. فالحمد له كيفية وكمية، كيفيته بالثناء وكميته بالتمجيد إن كررت الحمد أصبح ثناء، فإذا اقتصرت على المدح مرة كان حمداً فإن عظمته وكبرته أصبح تمجيداً فالثناء يلزم الكيفية والتمجيد يكون بالكمية، فإذا وقع الحمد على هذا الحال بالكمية والمقدار اللازم استحضاره في قلب العبد فلابد للعبد أن يقتصر في استعانته وفي عبادته على ربه، فإن اقتصر على ذلك فلابد أن يكون على الصراط المستقيم.

العبد الذي على الصراط المستقيم هو الذي يجرد ربوبيته لله، وهو الذي يجرد استعانته بالله، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” إن لكل عابد شِرَّة وإن لكل عابد فترة فمن كانت شرته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى”، بعض الناس تصيبهم نهمة وهمة في الإقبال على العبادة في قراءة القرآن… في طلب العلم…في الصلاة…في القيام…في الصيام،،، ولا يستشعر الإستعانة بالله فينقطع، ربنا يتركك لهمتك ولكنك ضعيف لا يمكن أن تعبد الله إلا بالإستعانة به. يمكن أن نقسم الفاتحة قسمين أو إلى ثلاثة أقسام: الحمد والثناء والتمجيد، وهذه الأمور الثلاثة إذا وجدت في القلب مثل مفاعلات كيماوية إذا وجدت الثلاثة بمقدار معين لابد أن يقع بينها تفاعل يوصل لنتيجة معينة، فإن وجدت هذه الأمور الثلاثة في القلب لابد أن توجد الإستعانة التي يحبها الله، فإن لم تجد الإستعانة التي يحبها الله هناك خلل في أحد هؤلاء الثلاثة، إما خلل في أصل الوجود وإما خلل في مقدار الوجود.

لا يمكن لعبد أن يستقيم على عبادة الله دون أن يفهم الفاتحة؛ ولذا الفاتحة اسمها الشفاء واسمها المثاني؛ لإنها تتكرر في اليوم. البدن حتى يصح ويستقيم يحتاج إلى ثلاث وجبات في اليوم، والقلب حتى يصح ويستقيم يحتاج إلى سبعة عشر وجبة، فالقلب مهم وحساس جداً وسمي القلب قلباً؛ لكثرة تقلبه، ومن أشراط الساعة كثرة تقلب القلوب فغذاء القلب معاني الفاتحة تقرءها بفهم وتدبر وتلذذ، لذة المناجاة بينك وبين الله جل في علاه، الفاتحة فيها نصيب من الحمد ومشتقاته بكميته وكيفيته، ثم فيها ما بينك وبين الله، ثم فيها ما لك عند الله. تحتوي الفاتحة التوحيد بجميع أنواعه: توحيد الربوبية:- تقر وتعترف أنه لا رب ولا رازق ولا مدبر لهذا الكون وما فيه إلا الله وهذا في أول آية (الحمدلله رب العالمين)، ثم تعترف أن هذا الرب الذي خلق وملك يفعل في من خلق ما يشاء ويأمرهم ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فالله لما ملك هو الذي يستحق العبادة، كل البشر مع الله هم عبيد، ولا ينفع ولا ويضر أحد إلا الذي خلقهم، ومن لم يعظم الله هذا التعظيم الشرعي امتلأ قلبه بتعظيم غيره، قد يعظم الأنبياء وقد يعظم الأولياء قد يعظم الصلحاء أو العلماء تعظيماً زائداً عن الحد الشرعي أو يعظم الدنيا أو الشهوة.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ورحم الله عبداً إذا كان في المقدمة كان في المقدمة، وإذا كان في السقاية كان في السقاية وإذا كان في المؤخرة كان في المؤخرة”، قسّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى قسمين، قسم دعا له وقسم دعا عليه، بعض الناس يحقق العبودية لكن ليست لله فالذي يحلل ويحرم الدينار والدرهم، فكل من لم يعظم الله هو في حقيقة أمره يعظم غيره، قد يعظم فرجاً…قد يعظم شهوة…قد يعظم زوجة…قد يعظم ولداً… بعض الناس يقول حرام أحضر ابني صلاة الفجر يبقيه نائماً بل الحرام عليه أن يبقيه نائماً ولا يحضره، هذا لون من ألوان العبادة لغير الله، فأنت لما تكون بحق وحقيقة عبد لله تعلم ما هي منزلتك وما هي منزلة ربك الله السيد الآمر، وأنت العبد المأمور ليس لك إلا أن تقول سمعنا وأطعنا؛ لذا هنالك ثلاثة أشياء: الحمد أصله وكيفيته وكميته إن وجدت في قلب العبد فلابد أن يثمر ذلك عن العبادة والإستعانة بالله وحده وحينئذ تكون على الصراط المستقيم، وعندما ذكرنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح باب من السماء لم يفتح قبل ولن يفتح إلى قيام الساعة ونزل ملك لم ينزل قبل قال: يا محمد أبشر فإن الله أنزل إليك نورين ]الفاتحة نور لهذه الأمة[ ما قرأت من حرف منهما إلا أوتيته، بمعنى أنك لما تقول بفاتحة الكتاب اهدنا الصراط المستقيم فإن الله لابد أن يؤتيك ما طلبت، لكن بعد فهم وتدبر بعدها يقول الله لك هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.

فالفاتحة تحتوي على التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية وهو اعتراف العبد بأن الله هو الخالق المالك الرازق وهو المدبر يفعل بعباده ما يشاء، وكفار قريش كانوا موحدين، هذا النوع يقول الله عزوجل :” ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله”، لكنهم قالوا: لا نستحق أن نعبد الله مباشرة نحتاج إلى آلهة بيننا وبين الله، كما قال عنهم الله:” وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”، فكان هذا هو شركهم، عبدوا غير الله، ما قالوا: إياك نعبد وإياك نستعين، حققوا توحيد الربوبية ولم يحققوا توحيد الألوهية أو يسمى توحيد العبادة المأخوذة من قوله تعالى:” إياك نعبد وإياك نستعين”. ثم تحتوي الفاتحة النوع الثالث من التوحيد وهو: توحيد الأسماء والصفات، أن تثبت لله ما أثبته لنفسه من أسمائه وصفاته، فالأدلة كثيرة على أنه ما ينبغي أن يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم فكل وصف أو اسم ذُكر في كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالواجب على العبد أن يؤمن به.

أخذنا توحيد الأسماء والصفات في الفاتحة من قوله تعالى “الرحمن الرحيم”، فجميع أسماء الله وصفاته ردُّها إلى ثلاثة أسماء (الله، الرب، الرحمن) وهذه الأسماء الثلاثة لا يجوز أن يُسمى بها أحد، أما مثلا رب الدار رب الأسرة رب السيارة رب العمل هذا أمر جائز، والدليل على أن أصل أسماء الله وصفاته هذه الأسماء الثلاثة قوله تعالى: “قل ادعو أو ادعو الرحمن أياًّ ما تدعو فله الأسماء الحسنى”، والدليل على أن الله لا يجوز أن يسمى إلا ما سمى به نفسه أو سماه به نبيه صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى: “سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين” فبعد أن نزه الله نفسه عما يصفه الكافرون مدح المرسلين لأن المرسلين هم العارفون بالله فلا يصفونه إلا بما يليق بجماله وجلاله وكماله سبحانه تعالى، فسورة الفاتحة احتوت على التوحيد بأنواعه الثلاثة الربوبيه الألوهية العبودية وأيضا احتوت على توحيد الأسماء والصفات من قوله تعالى: “الرحمن الرحيم”، والفاتحة فيها ذكر لأكثر ركن من أركان الإيمان الستة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.