الدرس الثاني


شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري

ثلا ثة أحاديث 7052 . و7053. و7054

الدرس الثاني

للشيخ مشهور حسن آل سلمان حفظه الله تعالى

قال الإمام البخاري رحمه الله

2- بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ النَّبِيُّ:” اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ“.

7052 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ :”إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَاقَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ“.

هذا الباب الثاني من أبواب الفتن وتبين لنا في الباب السابق أن الكفر والفتنة نالت من أناس رأوا النبي وحيث سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قطعة من حديث ثاني لعبدالله بن مسعود، وفي هذا اشارة إلى جواز تقطيع الحديث.

قوله سَتَرَوْنَإدخال السين تفيد أمران: التحقيق والقرب بخلاف سوف ترون فهي تفيد: التحقيق والبعد.

أما سَتَرَوْنَ إي ستكون قريبة، وقد ظهرت بعهد الخلفاء الراشدين.

سَتَرَوْنَ أُمُورًانكرها ليذهب الذهن في كل مكان، ويتسع الأمر أمام الذهن بالتفكير، والتنوين يفيد التفخيم، والذي ينكر هذه الأمور من كان على نهج الصحابة ويزن الامور بميزانهم، أما من غيرته الفتنة فهو لا ينكر.

وليس المراد بأنتم الأشخاص المخاطبين إنما من كان على منهجهم، النكران يقع بمخالفة ما كان عليه النبي وأصحابه. فالجامع بين الفتن وأشراط الساعة في آخر الزمان ليس حب الفتنة أو الكراهة، إنما الجامع أنها تخالف الأمر المعتاد المعهود في زمن الرسول ، والنبي فصل كثيرا في ما يقع آخر الزمان.

ذكر الفتن وما يكون في آخر الزمان من أحداث

عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: (لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ؛ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتهُ، فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ) (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – كتاب القدر)

وعن أَبي زَيْدٍ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ أَخْطَبَ، قَالَ: “صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ، فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا1.

هذان الحديثان دخلا تحت هذا الحديث سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَافكما ذكر الداء ذكر الدواء.

أن الحديث يفسر بعضه بعضا

 

كان النبي يخبرنا بالفتن والامور التي ننكرها، من أجل أن نحذرها دل على ذلك تبويب البخاري في الباب الأول.

«كان حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ. قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»(2).

فالفتن مقاومتها لا تكون إلا بما ورد في النص وبما ثبت عن رسول الله . الفتن لا ترجع محاربتها إلى العقول ولا إلى الإعلام ولا إلى الرأي العام لا إلى الكثرة، وإنما الفتن يستعصم الإنسان بالنص ويبقى دائرا معه، فيستملح ما حستنه ويستقبح ما قبحه، ومن كان يستحسن شيئاً ثم استنكره، او من كان يستنكر شيئاً ثم استحسنه، فليعلم أن الفتنة قد أصابته، وما يجري في هذه الأمة من أحداث جسام وكنتَ في يوم من الأيام تستحسن شيئا، ثم بدا لك أن الشيء الذي استحسنته هو قبيح والذي استقبحته هو قبيح فاعلم أن الفتنة قد أصابتك.

 

العبد ينكر والواجب عليه في أقل الأحوال أن لا يمر المنكر على قلبه مرور الكرام، بل الواجب عليه أن ينكره، فالقلب السليم الموصول المهيمن عليه نصوص الشرع إن جاءت فتنة فالقلب لا يقبل بل ينكر. فإن أشرب القلب هذه الفتنة فحينئذ هذا القلب ينتكس، فإذا توالت الفتن أصبح العبد يشكك في حرمة ماهو مجمع عليه عند العلماء. تجد بعض الناس ممن يحسن القلم يكتب في حل الزنا أو الربا أو حل المنكرات، وهذه فتنة قلبت الموازين وأصبح الإنكار غير حاصل، كما في الحديث عن حذيفة بن اليمان عن النبي تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نَكَتَتْ فِيهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ لَهُ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مِرْبَادًّاكَالْكُوزِ مُجْخِيًّا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ“. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 3

تجد الشخص أحيانا تارك الصلاة فإن جاء أمر يخالف هواه يقول: اتق الله!!.. لأن هذا الأمر خالف مصلحته.

 

يستحيل أن يخبر النبي عن مسألة من مسائل الفتنة ولا يكون في ذلك مصلحة غالبة، إن لم تكن كلية. عند التزاحم يكون قد أخبرنا بالخير الذي لنا، لذا بعض من أصابته الفتنة قد ينكر العلاج.

من مر عليه قول النبي وعلم أنه صحيح ونفسه لم تطمئن به ووجد مدافعة في قلبه، ومزاحمة لحقائق مقررة في عقله، هذا قد أصابته الفتنة، يحتاج إلى تحلية وتصفية وإلى غربلة، أما المؤمن إذا سمع شيئا ورد فيه نص أو عن النبي فاطمئن القلب له وانشرحت نفسه له وقبل باستسلام، فليهنأ وليحمد الله على هذه النعمة.

 

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ النَّبِيُّ: “ اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ“. يسمى هذا الحديث عند العلماء في مصطلح الحديث: معلق، أي لم يذكر البخاري اسناده إلى الصحابي وهو عبد الله بن زيد، ووصله الإمام البخاري بسنده إلى عبد الله بن زيد في كتاب المغازي في صحيحه في كتاب غزوة الطائف.

مدار الفتنة في الطريقة الشرعية على الصبر؛ والصبر حتى تلقى النبي على الحوض. فالفتنة ينبغي أن تحفز بها القوى النفسية، والفتنة تحتاج إلى قوة من الإنسان، فإذا تساوت القوة الضاغطة على الإنسان مع القوة في الداخل بقي الإنسان قائما متماسكا، فإذا كان إعصار الفتنة أشد من القوة في الداخل القابلة للمواجهة كانت أقوى، وطرحت الإنسان وصرعته فخر على وجهه.

 

ولذا لما أخبر النبي أمورا ننكرها قال: اصْبِرُوا، فمن عاش في زمن الفتنة ينبغي أن يوطن نفسه على الصبر، والنبي أخبرنا حتى تمتليء نفوسنا إذا هبت الأعاصير، الفتنة في آخر الزمان شديدة وكلما جاء زمان اشتدت، إن أردت أن تظل قائما في زمان فتنة ينبغي أن تتسلح بالصبر؛ والصبر حث النفس على أربعة أشياء:

1ـ الصبر على الطاعات.

2ـ الصبر على ترك المنكرات.

3ـ الصبر على ما يلاقي الإنسان من صعوبات في أمره ونهيه وتعليمه.

4ـ ثم الصبر على قضاء الله وقدره.

 

ولذا الفتنة تدرك بالثبات على العمل الصالح لذا صح عن النبي :” «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». رواه مسلم.

قال أبي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰفي أحدِ دروسِ شرح الترغيب والترهيبالشريط (57/ ب) 4:

درسنا الليلة في كتاب الترغيب والترهيبللحافظ المنذريّ، الحديث الثامن والعشرين، قال:

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». رواه مسلم.

وهٰذا الحديث إنذارُ الرسولِ لأُمَّتِهِ بفتنٍ لا يتصوَّرها عَقْلُ إنسانٍ! فِتن عظيمة! «كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»! يُفْتَتَن فيها المسلمُ، فيُصْبِح مؤمنًا ويمسي كافرًا، والعكس بالعكس تمامًا.

وقولُه : «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ» إنما يعني: الأعمالَ الصالحة، فهو يحضُّ أُمَّتَه، لا سيّما في الأزْمنة المتأخِّرة التي كلَّما تأخَّر بنا الزَّمن؛ كلَّما كثُرَتْ بنا الفتن، وكلَّما اقْتربنا مِن أشراطِ الساعةِ الكبرىٰ، فيَأمرنا رسولُ الله بهٰذا الحديث الصحيح أن نُبادر هٰذه الفتنَ بالأعمال الصالحة، أي: أن نَستقبلَها بالأعمال الصالحة، حتىٰ إذا ما فوجئنا بها؛ نكونُ قد تدرَّعْنا وتَسَلَّحْنا بهٰذه الأعمال الصالحة، فتَحُوْلُ بَيننا وبين أن نقع في مثلِ هٰذه الفتن التي هي «كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ».

فحَصَانةُ المسلمِ مِن أيِّ فتنةٍ مِن هٰذه الفتن التي ذُكرتْ بصورةٍ عامة في هٰذا الحديث، أو مِن فِتنٍ أخرىٰ سيأتي ذِكرُ بعضها في حديثٍ ثانٍ، فالوقايةُ مِن هٰذه الفتن كلِّها إنما هو: العملُ الصالح، فبالعمل الصالح يتدرَّعُ المسلم ويَتَحَصَّن مِن أن يَمُرَّ بهٰذه الأطوار الغريبة! التي يصفها الرسولُ عَلَيْهِ السَّلامُ بقوله: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا».

والسبب؟ أوضَحَ ذٰلك الرسولُ عَلَيْهِ السَّلامُ بقوله: «يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ» حَقيرٍ «مِن» حُطامِ «الدُّنْيَا»!

ومِثْلُ هٰذا الحديث لا يَحتاج إلىٰ فَهْمٍ كبير؛ فنحن نرى الناسَ وكيف يُفْتَنون بطَلَبِ الدُّنيا هٰذه مِن مناصِب وجَاهاتٍ ومراكز ونحو ذٰلك.

فإذًا؛ على المسلم أن يَتدرَّع بالعملِ الصالح. ولا شكَّ ولا ريب أنَّ العملَ الصالحَ لا يُفيد صاحبَه شيئًا مُطلقًا إلا بأن يَقْتَرِنَ هٰذا العملُ الصالح بالإيمانِ الصحيح، والإيمانُ الصحيحُ لا يكون إلا بالإيمانِ بما جاء عنِ اللهِ ورسولِه ، وبالمفهومِ الصحيحِ المطابِق لِمَا كان عليه سَلَفُ هٰذه الأُمَّة وفيهم الأئمّةُ الأربعة.

فلا يجوز لِمسلمٍ أن يُقْبِلَ على العملِ الصالح يبتغي بذٰلك النَّجاةَ يومَ القيامة وفي الوقتِ نَفْسِه يُهْمِلُ إصلاحَ عقيدتِه؛ فإنه والحالةُ هٰذه يَذهب عَملُهُ الصالحُ هَباءً منثورًا، كما قال ربُّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ في كتابه في حَقِّ الذين أشركوا بربِّهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} (الفرقان: 23).

لذٰلك؛ فيجب أن نتذكَّر دائمًا وأبدًا حينما يمرُّ بنا ذِكْرُ الأعمال الصالحة أن نقرن معها دائمًا وأبدًا: الإيمانَ الصالح أيضًا، ولذٰلك؛ ما مِن آية إلا وتَبْدأ بِذِكرِ الإيمان ثم تُثَنِّي بذِكرِ الأعمالِ الصالحة، كقوله تَعَالَىٰ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (سورة العصر).

أقول هٰذا لأننا في زَمَنٍ كَثُرتْ فيه الأهواءُ والبِدَعُ، بَعضُها وَرثناه مِن قرونٍ طويلة مديدة، وبعضُها تَذُرُّ قَرْنَها في العصر الحاضر، فلذٰلك؛ فأهَمُّ شيءٍ يجب على المسلمِ أن يُعْنىٰ به إنما هو: تصحيحُ عقيدتِه، ثم أنْ يَضُمَّ إلىٰ ذٰلك: الإكثارَ مِنَ العمل الصالح؛ لأنَّ الإيمان ليس هو الاعتقادَ الصالح فقط، بل مِن الإيمانِ أيضًا هو: العمل الصالح.

فالرسولُ حينما يَحضُّنا هناعلىٰ أن نُبادِر تلك الفِتنَ بالأعمالِ الصالحة؛ إنما يحضُّنا علىٰ ذٰلك لِنَجْعَلَ بيننا وبين هٰذه الفتنِ وِقايةً وحِصْنًا حَصينًا، تَمْنعنا هٰذه الأعمالُ الصالحة مِن أن نَقَعَ في مِثْلِ هٰذه الفتن المظْلِمة التي «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»”. انتهى المرادُ؛ دُرّةً أخرىٰ5 خَضْلَة، في عِقْدٍ لا يَفتأ يَطُول دليلاً ويَنْفُسُ دَلَّة، يَزِينُ جِيْدَ منهجِ أبي مُحَدِّثِ عَصْرِه مِن الأثباتِ جِلَّةٌ رُحْلَة، يَطول ويَنْفُس وإنْ عاند جهولٌ يَلمزُه بالضِّلَّةِ ضَلَّة!

بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ…” قبل أن يقول النبي فتنا كقطع الليل المظلم قال قبلها: بادروا بالأعمال الصالحة، فالفتنة تحتاج لصبر، في سورة الأنفال ربنا يصف الصحابة وهم أهل بدر قبل خوض المعركة بقولهيُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ“.

قال ابن جرير: قوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ) خبر عن أهل الإيمان، والذي يتلوه خبر عنهم، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين“.

وصف عجيب لأهل بدر، تساءلت لمَ وصفهم بأنهم يساقون للمعركة وهم ينظرون فوصلت لجواب أرجو أن يكون صوابا: ربنا خيّر الصحابة بين المعركة والقافلة أي الغنيمة، فالإنسان إن خُيِّر بين أمرين اختارت النفس الأسهل.

فإن وقع الصعب كان شاقا عليه، فالصحابة ما هيأوا أنفسهم لملاقاة العدو، وإنما حدثوا أنفسهم لملاقاة العدو، وهم كثرة والعدو قلة، والقافلة فيها أموالهم التي أخذت منهم، قالوا نغنمها فما كتب الله تعالى أن يأخذوا القافلة، فوقع الشيء الذي لم يهيؤوا أنفسهم له وهو القتال، فكان القتال شديدا عليهم فكان وصفهم كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ“. فالذي لا يعلم علم اليقين أن العصر الذي نعيشه عصر الفتن سيبقى كالريشة في مهب الريح وتبقى الفتن تلعب به، فأنت وطن نفسك على الكتاب والسنة وفهم الصحابة واصبر واقبض على دينك وإن كان القبض كالجمر كما قال : “القابض على دينه كالقابض على الجمر، إن صبرت على الجمرة وأنت قابض عليها أطفأتها وإن بقيت الجمرة في يدك ترميها ثم تمسكها وترميها وتمسكها أحرقتك من كل مكان وعذبتك وآلمتك، فاستعن بالله مولاك وخذها بيدك بقوة، واقبض عليها واصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ“.

وخذ بكل أنواع الصبر:

  1. الصبر على الطاعة سبب من أسباب درء الفتنة، لذا يقول في صحيح مسلم العبادة في الهرج كهجرة إلىالذي يعبد الله في الهرج والفتن كأنه يهاجر إلى النبي ﷺ.
  2. والصبر على ترك المنكرات: فالفتن كلها منكرات وأهواء لكنها خفيفة سرعان ما تنكشف، صح عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما قالا: الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيل، لذا من صفات الفتنة التي تكون آخر الزمان تموج موج البحر، تنتشر في الأمة، إن ظهرت في أقصى المشرق سرعان ما تنتقل إلى أقصى المغرب. فلا بد من توطين النفس أن الفتن ستشتد والصبر المستمر حتى نرد الحوض. فإن وردنا الحوض وشربنا مع النبي ؛ ولا يكون ذلك لمن رجع القهقري أو لمن قامت أصولٌ بدعية عنده، لا يمكن أن يقول النبي سحقا سحقا بسبب معصية أو غفلة؛ والنبي يقول بسبب الردة أو يقول بسبب الرجوع القهقري أن يخالف هديه .

 

شرح الأحاديث في هذا الباب

قال الإمام البخاري حدثنا يحي بن سعيد حدثنا الأعمش حدثنا بن وهب.. قال النبي :” إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا…” عبدالله المذكور في هذا الحديث هو صحابي جليل الغلام المعلم الذي كان يقرأ القرآن غضا كما أنزل. أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.

2- بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا.

وقول بن مسعود رضي الله تعالى عنه: “قال لنا رسول الله هذا جعل بعض أهل العلم يقول هذا حديث خاص بالأنصار، في زمنه الإمرة كانت في قريش، في مكة، ولم يبق إلا الأنصار. فبعضهم يقول أن النبي يريد به الأنصار خاصة، والأمر ليس كذلك، النبي يريد بأفعاله وأقواله وتقريراته التشريع لأمته جميعا، فهذا الحديث يشمل الأنصار وغير الأنصار وستأتي أحاديث تؤكد ذلك.

قال ابن مسعود: قال النبي :”إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَيعني أنتم يامن رأيتموني وعشتم معي وكذلك من كان على نهجكم. في الحديث الماضي كانت إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَآثار الفتنة، أما هذا الحديث بكلمة سَتَرَوْنَتفيد سرعة الفتنة في الأمة؛ وهناك أيضا نيل بعض الفتنة من الأصحاب، وهنا دلالة على أن الفتنة عامة، سيقع التغيير فيها في وقت مبكر على الأمة، وستقع الفتنة في الأمور الكبار الفخار العظام، الإفتراق على الأمة والسلاطين والأمراء، وسبب ذلك بينه الرسول وسيروه المتأخرين على وجه أكبر، فالنبي أطلعه الله أنه سيكون هناك أثرة، استئثار المناصب والمراتب والمكاسب والأموال والمصالح من قبل أمراء لهم ولمن يلوذ بهم إنكم سترون بعدي أثرةأثرة: أي اختصاصا واستئثارا في أمور الدنيا من الأموال والمناصب وأمورا تنكرونها لمخالفتي.

 

في بعض روايات البخاري ذكر الحديث دون الواو، وهو هكذا سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَاوحينئذ نعرب أمورا على أنها بدل من أثرة، وهذه الأثرة هي الأمور التي تنكرونها، فكأن هذه الأمور في العهد الأول من الأمراء تكون في الأثرة لكن بوجود الواو وهي رواية الجماعة قالوا: أثرة وأمورا، فالنكران في العهد الأول يكون في أمرين، الأول: أَثَرَةً، الثاني: أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا غير الأثرة تنكر، يأمرونكم بأشياء ويفعلون خلافها، ولكن سترون على وجه بارز أنهم يستأثرون بالدنيا والخيرات والأموال يأخذونها لأنفسهم ويصرفونها فيما يستأثرون به دونكم.

 

والصحابة المستمعون رضي الله تعالى عنهم من حرصهم قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فقال : ” أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ“. أي أعطوهم حقهم الواجب عليكم من الطاعة بالمعروف، أَدُّوا إِلَيْهِمْ ما يطالبونكم به من أموال وضرائب، سواء كان خاصا لأشخاصهم أو عاما لغيرهم، إذا رأيتم أثرة فلا يجوز لكم إن أمرتم من قبل الأمراء والسلاطين إلا أن تؤدوا حق الله، وأما حقكم أنتم الواجب عليكم لا تبحثوا عنه، إنما سلوا الله أن يحسن الأوضاع ويجملها، وادع الله أن يبدل أحوالهم ويصلح شأنهم، ادع الله أن ينالكم الأجر أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ“.

وفي هذا إشارة مهمة وقاعدة مفيدة، وردت في غير نص، في وقت الفتنة لا تعامل الناس بالعدل وعاملهم بالفضلأد الذي عليك ولا تسأل الذي لكهذا هو المعاملة بالفضل، إن طلبت الذي لك تريد العدل في حقك، في وقت الفتنة بوجه عام الشعار:معاملة الناس بالفضل لا بالعدل.

وثبت ذلك في حديث أخرجه مسلم بسنده لعبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال سمعت عبدالرحمن بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما يقول: سمعت رسول الله يقول:”

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: “كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ.

وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ؟، فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، وَاللَّهُ يَقُولُ: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا سورة النساء آية 29، قَالَ:فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ،

حديث عجيب نقف معه وقفات في أحاديث البخاري.

الآن هناك أمران الأول لما ذكر الفتن قال : فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ. رواه مسلم.

إن العُذر مطلوب للآخرين كما هو مُلتمس للنفس. فما إن يقع أحدنا في خطأ إلا ويبحث عن الأعذار ليعتذر عن خطأ وقع فيه أو ارتكبه! فما بالنا لا نلتمس ذلك لإخواننا؟ وما بالنا لا نطلب لعلمائنا ما نطلبه لأنفسنا؟
وفي حديث ابن مسعود  مرفوعاً: وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل. رواه مسلم.

…. أي عامل الناس بالفضل لا بالعدل.

 

ثم بعدها مباشرة يقول النبي :” وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِفالأمة ينبغي أن تحفظ بيعتها لأمرائها، فإن جاء اخر يبايع في البيعة، في الشرع يقتل لكي لا تقع المخالفة او المناكدة على الأمراء فتنتشر الفتنة.

فأصل الفتنة أن تطلب الذي لك مقابل الذي عليك. والواجب أن تؤدي الذي عليك وتسأل الله الذي لك، لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، إن اديت الذي عليك تحقق إجتماع الأمة، وإن نابذت فحينئذ أنت تفرق. ولو أن هذا الحديث بقي شعارا للأمة منذ القدم من زمن عثمان ثم علي ما وقع في الامة تنابذ وافتراق وقتال، ولا يجوز أن نفهم الاحاديث في الفتن فهما على منهج القدريين، نقف مصفوفي الأيدي ننتظر الفتن التي اخبرنا عنها النبي ﷺ، الواجب علينا أن ننبذها وندفعها عنا بقوة والأصل في الفتنة إن لم نحاربها غزتنا.

 

كان الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الْإِمَامِ، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا علي؟ قَالَ: مَتَى مَا صَيَّرْتُهَا فِي نَفْسِي لَمْ تُجْزِنِي، وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الْإِمَامِ فَصَلَاحُ الْإِمَامِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا علي؟ فَسِّرْ لَنَا هَذَا، قَالَ: أَمَّا صَلَاحُ الْبِلَادِ فَإِذَا أَمِنَ النَّاسُ ظُلْمَ الْإِمَامِ عَمَّرُوا الْخَرَابَاتِ وَنَزَلُوا الْأَرْضَ، وَأَمَّا الْعِبَادُ فَيَنْظُرُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَيَقُولُ: قَدْ شَغَلَهُمْ طَلَبُ الْمَعِيشَةِ عَنْ طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فَيَجْمَعَهُمْ فِي دَارٍ خَمْسِينَ خَمْسِينَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ: لَكَ مَا يُصْلِحُكَ، وَعَلِّمْ هَؤُلَاءِ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَانْظُرْ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فِيهِمْ مِمَّا يُزَكِّي الْأَرْضَ فَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَكَانَ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، فَقَبَّلَ ابن المبارك جَبْهَتَهُ، وَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ مَنْ يُحْسِنُ هَذَا غَيْرَكَ.6

النبي أرحم الناس بالناس فلو كانت المنابذة والخروج عن أمر الحاكم فيها خير للأمة ومصلحة ما سكت عنها النبي .

بعض الناس مقهور لا يتكلم بعلم ولا فهم ولا ميزان شرعي، عند تزاحم المصالح العامة والخاصة فيتكلم وهو جاهل لا يعرف كيف يعالج هذه المشاكل لذا هذه الأمور تعالج وفق أحكام وضوابط شرعية.

 

بقي حديث بن عباس رضي الله تعالى عنهما وهما يعالجان أصلا مهما وهو معنى الجماعة والبيعة والحديثان هما قال الإمام البخاري:

الأول: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ(7)، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(8).

الثاني:

7054 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.

ذكرنا أن الأمور التي ننكرها هي عامة ليست خاصة في الأنصار وهاذان الحديثان يؤكدان ذلك، فيدخل تحت ذلك مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْو مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِأَثَرَةً: والأثرة مفردة. وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا هي التي تظهر هي تدخل تحت عموم من رأى من أميره شيئا يكرهه، أو تحت عموم لفظ: من كره من أميره.

ويؤكد هذا العموم ما أخرجه الإسماعيلي في مستخرجه بسنده إلى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِلِحْيَتِي وَأَنَا أَعْرِفُ الْحُزْنَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقُلْتُ: أَجَلْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَمِمَّ ذَاكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ مُفْتَتِنَةٌ بَعْدَكَ بِقَلِيلٍ مِنْ دَهْرٍ غَيْرَ كَثِيرٍ، فَقُلْتُ: فِتْنَةُ كُفْرٍ أَوْ فِتْنَةُ ضَلالَةٍ؟ فَقَالَ: كُلٌّ سَيَكُونُ، فَقُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيهِمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَقَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ يَفْتَتِنُونَ وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أُمَرَائِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ، يَمْنَعُ الأُمَرَاءُ النَّاسَ الْحُقُوقَ فَيَظْلِمُونَ حُقُوقَهُمْ وَلا يُعْطَوْنَهَا، فَيَقْتَتِلُونَ وَيَفْتَتِنُونَ، وَيَتْبَعُ الْقُرَّاءُ أَهْوَاءَ الأُمَرَاءِ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ، فَقُلْتُ: كَيْفَ يَسْلَمُ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: بِالْكَفِّ وَالصَّبْرِ، إِنْ أُعْطُوا الَّذِي لَهُمْ أَخَذُوهُ وَإِنْ مُنِعُوهُ تَرَكُوهُ9.

وهذا دلالة على أن أحاديث الفتن كان جبريل يخبر النبي بها.

إِنَّ أُمَّتَكَ مُفْتَتِنَةٌ بَعْدَكَ بِقَلِيلٍ مِنْ دَهْرٍ غَيْرَ كَثِيرٍ؟ قال من قبل أمرائهم وقرائهم يمنع الأمراء الناس الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون. فسر الفتنة المكاسب الشخصية يريدون مكاسب وزارة ومناصب أو ظلم ويريد حقه وهذا سبب الفتنة.

 

والعالم إذا اتبع هوى الأمير وأصبح اداة طيعة بيده يفعل ما يأمر به، يترك التقوى والشرع ويتبع هوى الأمراء والحكام هذا يفتن الأمة، يقول فقلت: “كيف يسلم من يسلم منهم؟ قال بالكف والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوا تركواويأكد هذا الحديث ان الأمر عام وليس كما قال بعض بعض الشراح وهو الداودي قال في حديث بن مسعود السابق انه خاص بالأنصار،

وفي حديث الإسماعيلي إشارة مهمة أن القائمين على شؤن الناس بالجملة هم قراء وحكام بصلاحهم صلاح الامور وبفسادهم فساد الأمور. وقد ورد عن الفضيل ايضا ويرفع للنبي لكنه لم يثبت عنه:” صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس العلماء والأمراء.أ.هـ 10

قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْوَرَّاقَ، يَقُولُ: “النَّاسُ ثَلاثَةٌ: الْعُلَمَاءُ، وَالأُمَرَاءُ، وَالْفُقَرَاءُ، فَإِذَا فَسَدَ الأُمَرَاءُ فَسَدَ الْمَعَاشُ، وَإِذَا فَسَدَ الْعُلَمَاءُ فَسَدَتِ الطَّاعَاتُ، وَإِذَا فَسَدَتِ الْفُقَرَاءُ فَسَدَتِ الأَخْلاقُ“.11

فلما سال النبي جبريل بعد أن أخبره أن أمته مفتتنة قال من قبل من؟ قال من قبل أمرائهم وقرائهم.”

الدين إن قام عليه العلم والعلماء وحفظوا بيضته وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فحينئذ نكون بخير.

من لطائف حديث ابن عباس الأول انه مسلسل بالعنعنة، البخاري يقول حدثنا مسدد شيخه ثم بعد مسدد كله عنعنة، بخلاف الحديث السابق كله محدث، وأشرف أنواع المسلسل عند علماء المصطلح المسلسل بالتحديث ومن أحاديث المسلسل:”صمت أذناي إن لم يكن النبي قد قال كذا،هذا من أجل أنواع التسلسل، والإسناد السابق حدثنا حدثنا، أما هذا الإسناد حدثنا ثم بعد ذلك بدأ بالعنعة.

1 صحيح مسلم» كِتَاب الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ» بَاب إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ…رقم الحديث: 5153

2() أخرجه البخاري في كتاب الفتن- «بَابٌ: كَيْفَ الأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ» (7084)، ومسلم في كتاب الإمارة- باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (1847).

3 كِتَاب الإِيمَانِ» بَاب بَيَانِ أَنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ

4 مدوَّنة سُكَينة بنت محمد ناصر الدين الألبانية غفر الله لهم-. تعليقٌ لأبي الإمام الألبانيّ على الحديث الجليل: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا»

http://tamammennah.blogspot.com/2013/01/blog-post_21.html

وهو يضًافي بداية الشريط (263) من المتفرِّقات، والشريط (85) من فتاوىٰ سوريا“.

5 أعني أنها ليست الوحيدة، فإثباتاتُ براءةِ الوالد رَحِمَهُ اللهُمِن تهمة الإرجاء مشتهرةٌ، فهٰذه تُضاف إليها؛ لأنّ ذا أوّلُ تفريغٍ لها.

6 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» ذكر طوائف من جماهير النساك والعباد» الفضيل بن عياض» تعليمه للناس كيف يعبدون الله جلت قدرته

7() عبد الله بن عباس البحر أبو العباس الهاشمي حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، أبو العباس عبد الله، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي، الهاشمي، المكي، الأمير -رضي الله عنه. مولده: بشعب بني هاشم، قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدث عنه بجملة صالحة. توفي سنة ثمان وستين، وله إحدى وسبعين سنةً. (سير أعلام النبلاء 5/330- 353).

8() أخرجه البخاري في كتاب الفتن- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» (7053)، ومسلم في كتاب الإمارة- باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (1849).

9 (حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثنا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ، نا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، ثنا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَذَّاءُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْرٍ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

10 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وأولوا الأمر يشمل العلماء والأمراء لأن العلماء ولاة أمورنا في بيان دين الله والأمراء ولاة أمورنا في تنفيذ شريعة الله ولا يستقيم العلماء إلا بالأمراء ولا الأمراء إلا بالعلماء فالأمراء عليهم أن يرجعوا إلى العلماء ليستبينوا منهم شريعة الله والعلماء عليهم أن ينصحوا الأمراء وأن يخوفوهم بالله وأن يعظوهم حتى يطبقوا شريعة الله في عباد الله عز وجل .أ.هـ .

قال بعض السلف صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس العلماء والأمراء.أ.هـ

أي لا يستقيم أمر العلماء إلا بالأمراء الصالحين الذين يقربونهم و يخولون لهم العمل على النصح لهم وللأمة. والله أعلم

11 أخرجها أبو نعيم في الحلية.