لقد كثر الكلام عن الساعة، بل حدد بعض الناس مدة لها، بل ألف بعضهم كتاباً سماه “عمر أمة الإسلام” وبعضهم يحلف أيماناً مغلظة أن المهدي سيظهر بعد عشر سنوات، إلى غير ذلك من الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والسعيد في عالم الغيب من دار مع ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتعجل، ولم يسقط الأحاديث على أحداث قبل وقوعها، فإنه تنبؤ واعتداء على الغيب، وهذا يخالف هدي السلف في التعامل مع أحاديث الفتن.
وقد سئلت كثيراًَ عن كتاب “عمر أمة الإسلام” وهذا له تعلق بالسؤال فأقول: هذا الكتاب جل الأحاديث التي فيه صحيحة وثابتة وقد اعتمد مؤلفه تصحيح المحدثين، لكن للكتاب عقدتان، الأولى: أنه اعتمد أخبار بني إسرائيل من التوراة والإنجيل المحرفة المزيفة،وجعلها في مرئية الأحاديث النبوية، والعقدة الثانية: أنه نسج بين الأحاديث التي ذكرها، صلى الله عليه وسلم، وجعل لها تسلسلاً من رأسه، فيقول: هذا قبل هذا ، وهذا يترتب عليه هذا، وهكذا، وهذا التسلسل يحتاج إلى نص خاص، فما لم يأت نص فلا يجوز لنا أن نربط بين حديثين لا نعرف أيهما الأول وأيهما الآخر، فاستطاع بأسلوب رشيق أن يخدع القارئ ويدخل الباطل إلى عقله، ويجعله يعتقد أن عمر هذه الأمة معروف.
أما تحديد هل نحن في أشراط الساعة الصغرى أم الوسطى، فهذا كلام ذائع بين الناس، والسعيد من وقف مع ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اغتر بالاصطلاحات وإن ذاعت وشاعت، وكان الشعبي يقول: ((إذا استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل)) وكان سعيد بن المسيب يقول: ((ما لا يعرفه أهل بدر فليس في دين الله من شيء)) واصطلاحات أشراط الساعة الصغرى والوسطى والكبرى لم نظفر بها ولم نعرفها، لا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على لسان صحبه، قد يقال: هذا اصطلاح ولا مشامة في الاصطلاح، نقول: نعم لا مشامة في الاصطلاح، لكن هذا الاصطلاح حتى أجيب على سؤال السائل ليس بمنضبط، فالصغرى بالنسبة لنا وسطى بالنسبة لآبائنا أو أجدادنا، والكبرى بالنسبة لآبائنا وأجدادنا وسطى بالنسبة لنا، وهكذا، والأحسن من هذا أن نردد مع ابن كثير في كتابه “النهاية في الفتن والملاحم” قوله: ((ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ووقع)) ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ووقع شطره، وينتظر وقوع الشطر الثاني منه، ((ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ولم يقع)) فما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يقع، لأن أشراط الساعة من باب إخبار الله تعالى لنبيه علم الغيب.
وأحاديث يتعامل معها كثير من الناس على أصل عقدي بدعي فاسد، فلا يجوز لنا على أي حال من الأحوال أن نفهم أحاديث الفتن على غير فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز للواحد منا أن يقول: بما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن الفتن، وفيها من الشرور الشيء الكثير، فنقول بما أن النبي قد أخبر فلنقف مَكْتوفِي الأيدي أمام هذه الفتنة، فلا بد أن تقع، وهدي السلف في التعامل مع أحاديث الفتن أنهم كانوا يردونها ويدرؤونها عن أنفسهم وعمن يلوذ بهم، وعن مجتمعاتهم، فلا يستسلمون لها، وكانوا يعتقدون أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بها من باب الرأفة والرحمة بأمته فحسب، وليس من باب أن ينتظروها ويقولوا: لا بد أن يقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب علينا أن ندرأ الفتنة عن أنفسنا وعن أمتنا، فإن انتظرنا الفتنة وجلسنا مكتوفي الأيدي لا نحاربها، فَفَهْمُنَا هذا قائم على أصل القدرية، وليس على أصول أهل السنة.
والواجب علينا في أحاديث الفتن:-
أولاً أن نتعلمها ولذا صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعلمون أبنائهم أحاديث الفتن كما يلقنونهم السورة من القرآن الكريم، وكانت أحاديث الفتن مشتهرة على الألسنة، وكانت تشاع وتذاع في المجالس، وينبغي أن تذكر من أجل أن تُدْرَأ أو تدفع.
أرأيتم إلى الأب الحنون الحريص على ابنه لما يريد ابنه أن يغير بلده، وينتقل مثلاً من ديار الإسلام إلى ديار الكفر، فيقول له: يا أبت ترى كذا، وترى كذا وكذا، وهو يقول هذه الأمور حتى يحذره ويقوى عزيمته في داخله في أن يرد هذه الفتن، وكنت أقرأ آية في كتاب الله فأستغرب منها ولا أفهمها، وهي قول الله تعالى عن أهل بدر لما ذهبوا للقتال، وهم خير الأصحاب، بل الملائكة التي قاتلت معهم هم خير الملائكة، فقال الله عنهم في سورة الأنفال: {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}. هل يوجد هلع أكثر من هذا؟ أن يساق الإنسان للموت وهو ينظر إليه! ووصف أهل بدر هكذا، لأن الله خيرهم بين أمرين: بين القافلة وبين القتال، والنفس إن خيرت تميل إلى السهولة واليسر، فإن وقع الأشد، وقعت الطاعة.
لكن النفس إن تحفزت وتقوت واستعدت للأمور الصعاب فإنها تبقى قوية، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أنفسهم أنهم ما استعدوا في حديثهم لأنفسهم آنذاك للجهاد. فكان هذا حالهم .وليس هذا تنقيصا لهم معاذ الله ، وإنما هذا إشعار بطبيعة النفس البشرية .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الفتن آخر الزمان ، حتى تبقى العزيمة والهمة قوية ، ويتحقق قوله صلى الله عليه وسلم: {حتى تجيء الفتنة فيرقق بعضها بعضاً، حتى تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي} كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر و الطويل فالمؤمن يعلم أن الفتن ستشتد وتزداد مع مضي الزمن ، فيوجد في داخله من القوة ما يعادل أو يكون أقوى من ضغط الفتنة عليه.
وكم من إنسان يحيد ويسقط؛ لأن العاصفة أقوى منه وقد يكون اعتقاده وتصوره سليماً لكن العلة في إرادته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الفتن لكي يبقى في دواخلنا عزيمة أكيدة بأننا سنرى العجائب آخر الزمان فمهما رأيت يا عبد الله فلا تغير ولا تبدل ، مهما اشتدت بك الأمور، فانتظر الموت وسل ربك أن تموت على ألا تفتن في دينك ، ولذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج أحمد وغيره ، من دعاءه {اللهم إن أسالك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني ، وإن أردت بي وبقومي فتنة فاقبضني إليك غير مفتون} فالموت أحب للمؤمن من أن يفتن في دينه. فنتعامل مع الفتن بنفس المؤمن الحريص على أن يبقى على الجادة، وأن تبقى عنده الاستعدادات ليرى العجائب آخر الزمان ، فلا يحيد ولا ينحرف ولا ينافق ولا أقول لا يجامل ، والنفاق كثير بل النفاق والكذب أصبح شعار العصر، والنفاق هو عنوان اللباقة اليوم وشعار المجالس فهكذا نتعامل مع الفتن لا أن نستسلم لها، فنتعامل مع أحاديث الفتن على هذا المحور الذي تجعل الأحاديث تدور عليه.
وأسمع لبعض الخطباء، وأقرأ لبعض من يكتب، لا سيما في الجرائد والمجلات، فأرى أنهم يفهمون أحاديث الفتن فهماً خطيراً على أصل غير شرعي بل هو بدعي .
وأما الكتب المصنفة في الفتن، فأنا أحب الكتب المسندة وطالب العلم ينبغي أن ينظر في الإسناد، لأنه لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، كما قال الزهري وغيره ، فمن أوعب الكتب وأجودها تحقيقا وطباعة كتاب ” الفتن ” لأبي عمرو الداني المقرئ المشهور وكتابه مطبوع في ثلاث مجلدات وممن كتب في الفتن نعيم بن حماد ونعيم اختلط وفي حفظه شيء، فدمج الأحاديث والألفاظ لكن كتابه يستأنس به وممن جمع في الفتن ابن كثير في كتابه “النهاية في الفتن والملاحم” فجمع وأحسن واستوعب ونجد هذا أحسن ما كتب في الفتن والله اعلم