جاء في حديث صحيح أن رجلا أمرته أمه أن يتزوج امرأة فلما تزوجها أمرته أن…

البر؛ والبر والإحسان إلى الوالدين والصلة ميدان واسع فسيح لم يضع له الشرع حداً، وإنما تركه على حسب الورع والتقوى، فكلما ازداد الورع، ازداد البر، وما حديث الثلاثة الذين هم في الغار عنكم ببعيد، كيف كان بره لأبيه، وما قدم الشراب لأبنائه وهم يتصايحون حواليه، حتى استيقظ أبواه فغبق لهما من اللبن ثم بعد ذلك أعطى أولاده.
وقال تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، وأثر عن مسروق وبعض السلف أنه  لما يتكلم عند أبويه لا يكاد يسمع له صوت ذلاً ورحمة، فمهما حلقت وارتفعت وأصبحت غنياً أو ذا منصب اجتماعي  فعند الوالدين اخفض الجناحين، وكن لهما ذليلاً ورحيماً، {ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهام قولاً كريماً}، فلا يجوز لك أن ترفع صوتك على صوتيهما، فليس البر الطعام والشراب، وإن كان الطعام والشراب من البر، فالبر أيضاً الجانب النفسي، فليس من البر أن تعيش في النعيم، وأن تتنعم في الخيرات وما لذ وطاب، ووالداك يعيشان في نوع عوز وفقر، فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أنت ومالك لأبيك}، وهذا يفسره الحديث الآخر، وإن كان فيه نوع ضعف، {يد الوالد مبسوطة ليد ابنه} والمطلوب من الابن أن يجعل الوالد يعيش في مستواه، ولو كان {أنت ومالك لأبيك}، على الإطلاق، لما كان معنى لقول الله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس}، أي يكون معنى الحديث: {أنت ومالك لأبيك} يد أبيك مبسوطة في مالك يأخذ عند الحاجة، ويعيش في مستوى الابن.
 
وسئل عمر بن ذر : كيف برك أبيك؟ فقال (بري لأبي: أن لا أمشي بنهار بين يديه، وألا أمشي بليل خلفه، وأن لا أصعد ظهر بيت وهو تحته}، فالبر أمر فوقي؛ يحدد مداه الورع والتقوى، وقيل عن والد عمر بن ذر أنه كان يتأذى من الماء البارد، فسجن يوماً وابنه، فمكث عمر على ضوء القنديل يحمل الإناء طوال الليل حتى لا يؤذى أبوه من استخدام الماء البارد، فهذه صور من صور البر لا يقدر عليها إلا الورع والتقي، فالأصل في الأب إن أمر أن يطاع، وأن ترفع صوتك على صوت أبيك وأمك هذا من العقوق، وأن تقدم رأيك وأن تفرضه على أبيك وأمك من العقوق ، لكن تبدي رأيك.
لكن هذا في دائرة المعروف، فربنا يقول: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} فمهما يجاهداك على أن تكون مشركاً، وربنا يقول: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.
فينظر إن كان الأمر في البر فكما النبي صلى الله عليه وسلم: {لا طاعة إلا بالمعروف} وقال: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}، فقد يكون بعض الوالدين ظلمة، فالابن يتزوج امرأة تلبس جلباباً لكن الوالدين لا يريدانها، لأنها تستر بدنها وشعرها أمام إخوانه وأعمامه، فالوالدين في هذه الحالة لا يطاعان.
لكن إن كان الابن يعلم من أبيه عدلاً، وإنصافاً وديانةً، وأمره بالطلاق، فيجب عليه أن يستجيب، ولا يجب على الأب أن يخبر ابنه بالسبب، فلعل الأب رأى سبباً يوجب عليه شرعاً أن يأمر ابنه بالطلاق، ويرى من المصلحة أن يكتم هذا السبب على الابن، فعلى الابن أن يستجيب ما دام يعرف أن أباه ذا عدل وديانة ولا يعرف عنه ظلم ولا هوى، ولم يأمر ابنه هكذا، فعليه أن يطلق، والله أعلم.