كلمة عن وفاة الشيخ شعيب الأرناؤوط

http://meshhoor.com/wp/wp-content/uploads/2016/10/AUD-20161031-WA0004.mp3فإن الناس بحاجة إلى العلماء كحاجتهم إلى الماء والهواء كما يقول *الإمام أحمد* رحمه الله تعالى : وحاجة الناس للعلماء تشتد في وقت الغربة ، وفي مكان الغربة .
والناس ليسوا بحاجة إلى علم العلماء فحسب ، ولكنهم أيضًا بحاجة إلى أخلاق العلماء وإلى سمتهم ، لأن العلماء هم الذين يطبقون الدين ، ويترجمون الأوامر النظرية إلى طريقة عملية ، ويتعلم المتتلمذ عليهم الخُلق وطريقة معالجة الأمور .
فجعنا أمس بوفاة عالم في بلادنا رحمه الله تعالى وهو من أهل التحقيق ، وهو ( *الشيخ شعيب الأرناؤوط* ) توفي أمس في السادس والعشرين من محرم سنة ألف وأربعمائة وثمان وثلاثين رحمه الله تعالى .
الشيخ شعيب رحمه الله تعالى كان والده صديق لوالد شيخنا الألباني ( نوح بن نجاتي ) وكلاهما ممن فرّ بدينه إلى سوريا،إلى بلاد الشام لما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار في فضلها ، ففروا من هناك على إثر موجة الإلحاد التي تعرضت لها ألبانيا ، ففروا من ألبانيا إلى بلاد الشام .
ولد الشيخ شعيب رحمه الله تعالى سنة (1928) فهو تقريبًا يناهز التسعين إلا قليلاً.
تعلم في دمشق ، وبدأ يتعلم العربية حتى أتقنها ، وأصبح حاذقًا فيها ، وكان يحث طلبته على ضرورة تعلم العربية ، وكان يقول رحمه الله تعالى ( *إن العربية وعاء الإسلام ، و لا يستطيع العبد أن يفهم الإسلام دون أن يتعلم العربية* ) .
ثم تحول إلى دراسة الفقه الحنفي ، فدرس على الشيخ ( *سليمان الغاوجي الألباني* ) الفقه الحنفي ، وتأثر بالفقه الحنفي إلى أواخر حياته ، فعلى الرغم من أنه كان يذكر مثلاً في التعليق على زاد المعاد في أنه لم يصح شيء في الوضوء من نزول الدم ، إلا أنه كان إذا نزل منه دم توضأ ، فبقي متأثرًا بفقه الحنفية رحمه الله تعالى .
رأى كما رأى غيره ، وكان هذا ظاهرًا جدًا على العلماء في ذاك الزمان أن العلماء يحتجون بالأحاديث و لا يفرقون بين الصحيح والضعيف ، وكما يقولون يظنون أن كل مدور رغيف ، وكانوا يقولون : ( *أي خير في حديث أنت لا تفليه ولا تبحث عن ناقليه واختلط صحيحه بواهيه* ) ، فرأى أن العلماء يحتجون بكل شيء .
سمعت من الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله يقول : كان الخطيب في حلب يصعد على المنبر ويذكر حديثًا طويلًا أربع أو خمس صفحات ، فإذا أراد أن يؤكد للمستمعين أن الحديث مسند يقول : أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات ، وهو ما يفهم ما معنى أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات .
فرأى الشيخ شعيب رحمه الله تعالى ،( وكنا قد تكلمنا قبل شهر في هذا المجلس المبارك عن الشيخ شعيب رحمه الله تعالى لما بلغنا استقرار قدمه على مذهب الصفات ، فذكرناه بخير )، وقلنا حفظه الله ، والآن خلال شهر نقول رحمه الله .
فرأى الشيخ شعيب رحمه الله تعالى أن العلماء يحتجون بالأحاديث ولا يفرقون ، ولا يدققون بين الغث والسمين ، ولا بين الصحيح والضعيف ، ولا بين السليم من الرديء ، فالشاهد وقع في قلبه أن يشغل وقته وأن يبذل جُهدًا كبيرًا في مجال التحقيق .
بدأ الشيخ رحمه الله تعالى من سنة (1955) بالتحقيق وعكف عليه ، وأعطاه وقته وعقله ولُبه وجده ، وبذل جُهدًا عظيمًا في هذا ، وأصبح له مدرسة ، وتلاميذ في التحقيق ، وأصبح تلاميذه ممن يحققون وينشرون .
في سنة (1958) التحق بالمكتب الإسلامي ، وصاحبه الشيخ زهير الشاويش رحمه الله ، واشتغل فيه محققًا مسؤولًا عن قسم التحقيق في المكتب لقرابة (20) سنة .
وطبع الشيخ رحمه الله تعالى في المكتب الإسلامي بواكير التحقيق لكتب التراث ، ومن ذلك إصدار :
? شرح السنة للبغوي
? روضة الطالبين للنووي
? المبدع في شرح المقنع
وعدد كبير من المراجع العلمية التي لا يستغني عنها أبدًا طالب العلم ، ونوع هذه المصادر ، وعددها بالمئات من المجلدات.
في أوائل عام (1980) وبالتحديد سنة (1982) إلتحق الشيخ شعيب رحمه الله بعد قدومه للأردن إلى مكتب التحقيق في مؤسسة الرسالة ، ومؤسسة الرسالة عندها كوادر ، وعندها عدد من المحققين ، وكان مدير مكتب التحقيق الشيخ شعيب رحمه الله تعالى ، وبدأ يعمل لخدمة التراث ، وجزاه الله خيرا خدم عددًا كبيرًا من الكتب ، وطبع عدد من الكتب التي ما زلنا نفرح بها ، ونرجع إليها ، وإذا طلب منا النصيحة ننصح طلبتنا بأن يعتمدوها ، كطعبة :
زاد المعاد لابن القيم .
سير أعلام النبلاء ولأول مرة يصدر بتحقيقه كاملًا .
مسند الإمام أحمد وهو أول من انفرد بطبع مسند الإمام أحمد محققا في نحو ( 55 ) مجلد .
حقق مجموعة حسنة وطيبة من الكتب ، وكان آخر هذه الكتب تحقيقا له *السنن الأربعة ، فاشتغل عليها وتعب في ضبط نصها وتحقيقها ، رحمه الله تعالى.
تجربة الشيخ شعيب رحمه الله تعالى كانت مُنصبة في التحقيق ولم ينشغل بالتأليف أبدًا .
كان بينه وبين شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في فترة من الفترات ،وقد أدركناها ،وعرفنا خفاياها، وليس بأهمية بمكان أن ندخل في تفاصيلها ، *كان بينهما ما يكون بين الأقران ، إلا أنَّ الأمر أستقر في أواخر حياة الشيخ شعيب رحمه الله على الخير ، وكان يذكر شيخنا الألباني في مجالسه بخير .
ولما زارنا من لبنان أخونا الشيخ ( مصباح حنون ) إلتقى بالشيخ شعيب رحمه الله تعالى وسأله سؤالًا صريحًا واضحِا مباشرًا :
أيهما الأفضل معتقد السلف في الصفات أم معتقد الخلف ؟
فأجاب رحمه الله تعالى بجواب صريح وواضح فقال رحمه الله تعالى : مذهب السلف أعلم ، وأسلم ، وأحكم .
درج عند المتأخرين أنهم يقولون مذهب السلف في الصفات أعلم ، ومذهب الخلف أسلم ، وأحكم ، ومعاذ الله أن يكون الأدنى في العلم هو الأسلم والأحكم .
فكان جواب الشيخ شعيب رحمه الله تعالى لمن يعرف كلام العلماء ،جوابًا علميًا، دقيقًا، ملخصًا مركزًا ، وهكذا شأن العلماء رحمهم الله تعالى .
حقيقة الشيخ شعيب رحمه الله تعالى ومدرسته تفيد كثيرًا هذه الأيام ، وهذه الفائدة تكون في بعث التراث الذي بقي محبوسًا في داخل الجوارير وعلى الرفوف ، ولا سيما تلك الكتب الكبيرة التي لا يقدر عليها شخص واحد .
فالشيخ شعيب رحمه الله تعالى قام بتجربة عظيمة بجمع جهود متعددة ، اعترتها مشاكل وأمور يمكن أن يستلهم منها في الحقيقة مدرسة تبعث الكتب الكبيرة لتحقق وتنشر ويهنأ بها طلبة العلم.
اليوم في نوازل الإقتصاد والسياسة والعصر الذي نعيشه عصر تجمعات وليس عصر انفرادات ، هناك كتب عديدة جدًا نسخها الخطية محفوظة إذا طبعت تزيد عن (100) مجلدًا مثل *المطلب العالي لابن رفعة* و *تفسير الحوفي* و *التذكرة للصفدي* في الأدب ، هنالك كتب لا يستطيع شخص واحد أن يقوم بها ، فمدرسة الشيخ شعيب رحمه الله تعالى وطريقته واجتماع مكامن القوة في الأمة أعانت ، فكان يجد من يتولى القضايا الإدارية والمالية ، وكان يجد من يتولى القضايا الفنية للنشر ، وكان هو منشغلًا ومُنصبًا على المسائل العلمية ، وانجز رحمه الله تعالى إنجازات عظيمة ، *المجلدات التي كتب اسم الشيخ شعيب رحمه الله تعالى عليها تصل إلى المئات ، تصل إلى (400) ، (500) مجلد ،* وهذا أمر نادر جدًا ؛ وما أظنه حصل من قرون، والسبب في ذلك :
الإنقطاع .
وعدم الإنشغال إلا بهذا الأمر .
المتابعة الحثيثة الشديدة
وجود الكوادر والمساعدين
وجود الناشر الذي يتبنى هذا الأمر حتى يبقى العمل مكتملا.
الشيخ شعيب رحمه الله تعالى خدم الأمة ، وخدم التراث وأسأل الله عز وجل أن ينفع به ؛ وأن يغفر له ، وأن يرحمه ، اللهم إنه مقبل إليك محتاج إلى رحمتك ، وأنت غني عن عذابه ، اللهم إن كان محسنًا ولا أظنه إلا كذلك فزد في حسناته ، وإلا فاغفر لنا وله ، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه .
⬅ مجلس فتاوى الجمعة
2016 – 10 – 21 افرنجي
20 محرم 1438 هجري