الأكل باليد هذه هو هديه صلى الله عليه وسلم، وهدي صحبه، والأكل يكون باليمين على وجه الوجوب، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يأكل بشماله أن يأكل بيمينه، فقال: لا أستطيع، قالها كبراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ما استطعت}، فما استطاع بعدها أن يرفع يده إلى فمه، وليس في هذا غلظة ولا شدة، فلو أن رجلاً قال اليوم لرجل: النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ولم يستجب، فأنبه أو دعا عليه، لاسيما إن كان الرد بسبب الكبر لا بسبب التأويل أوالخلاف المعتبر، لكان لهذا وجه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاثة أصابع، وهذا هو الخير وهو البركة، وأما الأكل بالخمس فهو الشره، وليس من السنة، وقد وجدت كلاماً لابن قتيبة في كتاب بعنوان “تفضيل العرب على العجم” أو “الرد على الشعوبيين” رد فيه على من يفضل العجم على العرب بقولهم: إن العجم يأكلون بالملاعق والسكاكين، وإن العرب ياكلون بأيديهم، ومن يأكل بالملعقة والسكين فهو أرقى ومتقدم اكثر ممن يأكل بيده، فأولى ابن قتيبة هذه الشبهة بكلام جيد فقال في كتابه: (وأما أكلهم بالسكين فمفسد للطعام، منقص للذته، والناس يعلمون، إلا من عاند منهم، وقال بخلاف ما تعرفه نفسه، أن أطيب المأكول ما باشرته كف آكله، والتقذر من اليد الطاهرة ضعف وعجب، وأولى من التقذر باليد البلغم واللعاب الذي لا يسوغ الطعام إلا به، ويد الطباخ والخباز تباشره، والإنسان ربما كان منه أقل تقذراً وأشد أنساً)، فإن كان لا بد من التقذر، فتقذر من يد من باشر الطهي والخبز والعجن.
فأكل اليد فيه لذة، وهو السنة، لكن لا يكون بشره، إنما يكون باليمين بثلاث فحسب، ومن لم يحسن الأكل بثلاث، ولم يستطع إلا بالخمس، فاستخدام الملعقة تقللاً من الشره أقرب للسنة من استخدام الخمس في المعنى لا في اللفظ، فمثل هذه المسائل ينظر فيها للمعنى، والأحسن قطعاً وقولاً واحداً في الدين والدنيا الأكل باليد، لكن على الحال الذي أكل به صلى الله عليه وسلم من غير شره، والله أعلم.