لقد نزلت في حياة المسلمين في سائر ضروب الحياة نوازل عديدة، في عامل الطب والاقتصاد والسياسة والاجتماع وغير ذلك، وهذه النوازل التي تخص الأمة بالجملة ولا تخص الأفراد يحسن ويجدر أن يكون فيها اجتهاد جماعي فرأي الجماعة خير من رأي الفرد، وهنالك مجامع فقهية عديدة يجتمع فيها أعلام الفقهاء ويبحثون هذه النوازل.
ومن بين المسائل الطبية التي نزلت في حياة المسلمين اليوم ما يخص الجنين وما يمسى بالتلقيح الاصطناعي، وللتلقيح صور منها الصورة التي يسأل عنها الأخ السائل، هذه الصورة تكون البويضة صالحة ويمكن أن تلقح لكن يكون الرحم إما أن يكون لا يقدر على حمل الجنين وإما أن تكون المرأة لسبب أو لآخر لا ينصح بأن تحمل ووجود هذه البويضة الملقحة قد يودي بحياتها ، وفي بعض الأحايين يكون الرحم قد نزع من المرأة، ففي مثل هذه الصورة يلجأ الأطباء إلى أن تؤخذ البويضة من المرأة وتلقح، ثم تزرع، ويعود زرعها في رحم امرأة أخرى.
والطب اليوم قد تقدم، والطب اليوم قد أصبح تجارة إلا عند من رحم الله، وحصل انفكاك بعيد بين الطب والدين ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسمعنا ورأينا أشياء يندى لها الجبين تخص الأطباء من مزاولات غير شريفة لمهنتهم، وفي بعض الأحايين تكون مناقضة للخلق والدين.
وهذه المسألة يسمونها (إجارة الرحم) أو (إجارة الظئر) أو (شتل الجنين) فهذه التسميات لمسألة واحدة، والظئر في اللغة هو أن تحن الناقة على ولد غيرها، فهذه تسمى الظئر، فلذلك سميت إجارة الظئر، لأنه وضع في رحمها بويضة من غيرها.
والعلماء المعاصرون وجل المجامع الفقهية يحرمون هذه الصورة، لاحتمال وجود إفراز بويضة أخرى وتلقيحها واختلاط الأولاد، فلا نعرف صاحب البويضة الحقيقية أو صاحب البويضة المزروعة، والشرع قد حرص كل الحرص على عدم اختلاط الأنساب، والنسب يترتب عليه أحكام كثيرة من الميراث وغيره، فالمرأة التي تزرع فيها هذه البويضة بالوطء يمكن أن تلقي بويضة أخرى لها وتلد توأم.
وإن لم يقع حمل مع هذا الولد – الناتج من الزراعة- فقد وقع خلاف شديد من أم هذا الولد، هل هي صاحبة البويضة أم التي ولدت؟ فربنا يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم}، ويقول: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم}، ويقول: {وحملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً} فهذه هي التي حملت ووضعت وهي التي ولدت وخرج الولد منها، فالمسألة منعها جل الباحثين، لوجود عسر في العلاقة ولاحتمال وجود الحمل مع النطفة المزروعة.
وقد جوز بعض صور هذه المسألة بعض مشايخنا في هذا العصر وهما الشيخان الجليلان الشيخ ابن عثيمين والشيخ مصطفى الزرقاء رحمهما الله، فقد جوزا صورة واحدة في هذه المسألة وهي أن تزرع النطفة بعد تلقيحها في رحم الضرة، فرجل عنده زوجتان [إحداهما لا تقدر على الحمل]، فتؤخذ بويضة منها وتزرع في رحم ضرتها، فقالوا : هنا لا يوجد اختلاط أنساب، لأن الولد في الحالتين يبقى لأبيه، لكن في الحقيقة إن حصل حمل في هذه الضرة، فهناك منازعة في الولد لمن يكون؟
والمجمع الفقهي في مكة في سنة 1404هـ، بحث هذه المسألة وقرر اعتماد رأي الشيخين مصطفى الزرقاء وابن عثيمين، ثم في العام الذي يليه 1405هـ، بحث المسألة نفسها وتراجع عن إقراره الأول، وبقي يقول بالحرمة، حتى زرع هذه النطفة في رحم الضرة، وهذا الذي تميل إليه النفس.
والولد ليس هو كل شيء في الحياة بلا شك، والمطلوب من الإنسان أن يصبر، وأن يجأر إلى الله بالدعاء، وبالذكر والاستغفار، والله عز وجل يقول: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل عليكم السماء مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً}، وجاء رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال له: إني فقير، فادع الله أن يرزقني، فقال: عليك بالاستغفار، وجاءه آخر وقال له: إني عقيم، فادع الله أن يأتيني الولد، فقال: عليك بالاستغفار، فلما انصرف السائلان سأله التلاميذ: لماذا أجبت الاثنين بهذا؟ فتلى قول الله: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين}.
وكم من إنسان نبيه عالم له ذكر الآن وذكره ليس من أبناءه الذين من صلبه، وإنما ذكره من أبناءه الذين من فكره، وابن الفكر عند العقلاء لا يقل عن ابن الصلب، كالإمام الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية والنووي فهؤلاء لم يتزوجوا، والإمام مسلم لم يولد له ذكر، وهؤلاء كان لهم ذكر، ومن جعل الله له ذكراً بين عباده المؤمنين والصالحين فكفاه ذكراً.
ومن كانت هذه حالها فليس لها إلا الصبر، وللزوج أن يعدد الزوجات، فهذا من الحلول الشرعية، أما الزرع واستئجار الرحم، فهذا يتنافى مع كرامة الإنسان فكما أن الإنسان لا يجوز أن يبيع شيئاً من أعضاءه، ولا يبيع شيئاً من دمه فكذلك الرحم لا يستأجر وهذا ينافي عموم قول الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}، فابن آدم مكرم وهناك شيء مقلق ومزعج في مثل هذه المسائل فكم من امرأة قيل لها هذا ابنك، ويثبت فيما بعد أن الأب لا يوجد ماء حياة في حيوانه المنوي، فلهذا أرى الصبر وبهذا تفتي المجامع الفقهية، والله أعلم.