[ النهي عن التكبر والمرح في الأرض، عبارة الإمام مالك “لا أدري”، وبيان خطورة الكلام بغير علم ]

[ النهي عن التكبر والمرح في الأرض، عبارة الإمام مالك “لا أدري”، وبيان خطورة الكلام بغير علم ]

قال فضيلة الشيخ مشهور حسن آل سلمان حفظه الله:

قال أهل العلم في التفريق بين المرح والفرح، فقالوا في التفريق، ومقولتهم دقيقة، وتأتينا بعد قليل.

قالوا: الفرق أن الفرح قد يكون بحق، فيُحمَد صاحبه، وقد يكون بالباطل، فيندم عليه.
أما المرح فلا يكون إلا بالباطل.

الفرح قد يكون بالحق وقد يكون بالباطل، فإن كان بالحق حُمِد صاحبُه، وإن كان بالباطل ذُمّ صاحبه.
أما المرح ـ بالميم ـ فلا يكون إلا بالباطل.
وأخذوا هذا التفريق الدقيق من قوله سبحانه وتعالى في سورة غافر:

{ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر : 75]

تفرحون في الأرض بغير الحق، إذًا: في فرح بغير الحق.

والغالب في الفرح أنه بحق، فالفرح بالحق يُحمد صاحبه،
والفرح بالباطل يُذم صاحبه، والمرح لا يكون إلا في الباطل، كما قال الله سبحانه وتعالى.
{ .. وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر : 75]

علَّل النهي عن قوله سبحانه وتعالى:
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا .. } ، بقوله:
{ .. إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}
[الإسراء : 37]

وهذا فيه تهكم بالإنسان المختال المتكبر.

فعلَّل الله عز وجل هذا النهي بقوله:
{إنك لن تخرق الأرض}:
لن تقدر أن تُحدث في الأرض خرقًا بشدة وطأتك ودوسك عليها.

أي: لا يمكن أن تنقبها أو أن تثقبها إلى الجانب الآخر.
فأصلُ الخرق يدل على مَزق الشيء وقطعه.

ثم قال:
{ولن تبلغ الجبال طولا}
مهما تعاظمتَ ومددت قامتك وارتفعت ووقفت على رؤوس قدميك، لن تستطيع أن تصل إلى الجبال.

فمنها :
يا أيها المتكبر المتعاظم في مشيك، لن تثقب الأرض بشدة وطأة قدمك عليها عند اختيالك في مشيتك، ولن يبلغ طولك الأعلى في مشيتك طول الجبال، فما الذي يُغريك بهذه المشية، وقدرتك لا تبلغ بك هذا المبلغ؟!

تواضَع لا تتكبّر ، اعرِف قدرَ ضعفك وقدرَ عجزك،
فأنت محصورٌ بين جامدين لا تقدِر على التأثير فيهما:
الأرض من تحتك، والجبال من فوقك.

وهذه الجبال شامخة لا تستطيع أن تؤثر فيها.
فإذاً الآية تدل على التواضع.

والعلم ثقيل، ولا يسع العلمَ إناءٌ إلا إناءَ الحلم، فالعلم بلا حِلم لا فائدة منه من حيث الأثر في النفس.

من أراد أن ينفع الله تعالى به، فالواجب عليه أن يكون ذا حِلمٍ مع العلم، وأما إن بقيتَ صاحب علم دون حِلم، فأثرك في الناس ضعيف.

ولذا:
طالب العلم كلما ازداد علمًا ينبغي أن يزداد تواضعًا، ومن ازداد علمًا ولم يزدد تواضعًا، فليتَّهم علمه، كما كان يقول بعض السلف.

هذه خلاصة المعنى الإجمالي في الآية.
أما الأحكام التي تُستنبط من هذه الآيات، فكثيرة:

الأمر الأول: وجوب الدليل للحصول على العلم.
العلم بالدلائل، لا بالقائل.

ولكن الإنسان في الطلب في البدايات يغلب عليه التقليد، ولا سيما تقليد من ألقى الله تعالى محبته في قلبه، وكلما ازداد العلم، ابتعد الإنسان عن التقليد.

ولسعة العلم، لا بد لطالب العلم الموفق أن يأخذ العلم من أهله.

وكما كان يقول أيوب السختياني رحمه الله:
إذا أراد الله بالحدث ـ الصغير ـ، والعامِّي، والأعجمي خيرًا،
يسّر الله له عالمًا من أهل السنة.

إذا أراد الله بالحدث ـ الولد الصغير ـ، والعامي ـ عوام الناس وليس بطالب علم ـ، والأعجمي ـ ليس بعربي ـ، إذا أراد الله به خيرًا، يسّر الله تعالى له عالمًا من أهل السنة.

طالب العلم لا يلزم أن يكون مجتهدًا في كل ضَربٍ من ضروب وألوان العلم، ففي اللغة مثلًا: ما ينبغي أن يكون كل طالب علم مثل سيبويه، ويعرِف المذاهب والأقوال والأدلة!
لا يستطيع، فلا بد أن يُقلّد.

والتقليد ليس عِلمًا ، التقليد للضرورة والحاجة، فأنت تلجأ للتقليد ليس من باب العلم، ولكن الأصل في العلم كما قال الله عز وجل:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء : 36]

أي مسألة تُسأل عنها ولا تعرفها، قل: لا أدري.

وكانوا يقولون: “من ترك (لا أدري)، فقد أُصيبت مقاتله”.

وكان يقول بعض من لازم مالكًا:
لو أردنا أن نملأ الألواح من قول الإمام مالك: (إن نظنُّ، إلا ظنًا، وما نحن بمستيقنين)، لملأنا الألواح.

وجاءه رجل وقال:
“عندي أربعون مسألة”، فأجابه على مسألتين أو ثلاث، فاستغرب ، قال: أنت إمام دار الهجرة، أنت إمام المدينة النبوية، وتقول: لا أدري؟!

فقال مالك بكل أريحية:
“اخرُج وأذِّن في الناس، ونادِ بأعلى صوتك: مالك لا يدري”.
اخرُج، أذِّن، في الناس: “مالك لا يدري”.

ماذا يضيرك أن تقول: لا أدري؟
الله يقول:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء : 36]

العلم قائم على الدليل، والتقليد ليس بعلم.

لذا قالوا: لا يُقلد إلا غبي أو جاهل.
نعم، يُلجأ إلى التقليد للضرورة، أما هو فليس عِـلماً ، والأدلة على هذا كثيرة.

الواجب على الإنسان إن تكلم بشيء، أن يتكلم بعلم،
وهذا أصلٌ أصيل، وركنٌ ركين عند طالب العلم.

والأدلة عليه كثيرة، ومنها في القرآن الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ..}
[الحجرات : 12]

الشيء المظنون: لا تتكلم فيه ، تكلَّـم بعد أن تتثبت.

قال الله عز وجل :
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل : 116]

هذه سُنة شرعية كونية باقية إلى يوم الدين:
{ ..إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل : 116]

لا تكون لهم ثمرة.
انظر إلى التاريخ، وانظر إلى العلماء وأحوالهم، وانظر من أفلح منهم؟
من أفلح؟
من كان صادقًا.

الذي يُغيّر ويُبدّل وفق الأهواء والرغبات، وحتى لا يغضب الناس، ولماذا لا تعظ النساء المتبرجات؟
قال: لا أريد أن ينفرن مني!

هل أفلح؟!
الآن لا يسمع به أحد.

هذا قول الله عز وجل:
{ ..إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل : 116]

يا فلان، أنت تلتقي مع علية القوم، لماذا لا تتكلم عن الربا؟
قال: إذا تكلمت عن الربا، فلا يبقى لي جمهور، فكل من حولي مرابون!

{ ..إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل : 116]

المتبرجات ينفرنَ مني ، تجلس أمامي بتبرجها وشعرها؟

{ ..إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل : 116]

أنت أيها العالِم:
لك لسان حال، ولك لسان قال.

لسان حالك ينطق، ونطقه في بعض الأحيان أبلغ من لسان القال.

تفهمون الحال والقال؟
نعم، إن شاء الله.

ولذا قال أهل العلم:
من أصول مسائل العلم الكبار التي لا يجوز أبدًا أن يُغفل عنها الإنسان:
أصلان،
اكتب هذين الأصلين، وتفقد نفسك، واحمل حالك على أن تكون من أهلهما:

قال أهل العلم:
إن كنت مدّعيًا فالدليل، إن ادَّعَـيْتَ أي شيء ، قال عز وجل:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء : 36]

وإن كنت ناقلًا فالصحة.
إذا نقلت، اعتنِ بالصحة، انقل الأمر على حاله ، وإن كنت مدعيًا، لك دعوى:
تقول هذا حلال، هذا حرام، هذا مكروه،
فالواجب عليك أن تكون على دليل.

هذان أصْلان كليّان، وقاعدتان مهمتان، تلزمان طالب العلم في كل زمان، وأينما كان، وفي أي مسألة تكلم:
① إن كنت مدعيًا: فالدليل.
② إن كنت ناقلًا: فالصحة.

المصدر:
المحاضرة الثانية
فضيلة الشيخ مشهور حسن آل سلمان
نيل المرام في شرح آيات الأحكام
الدورة العلمية 27
التاريخ:
4 صفر 1447 هـ
29 يوليو 2025 م✍️✍️

◀️ رابط الفتوى:

[ النهي عن التكبر والمرح في الأرض، عبارة الإمام مالك “لا أدري”، وبيان خطورة الكلام بغير علم ]