كيف يكون طالب العلم مع القرآن
قال فضيلة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان حفظه الله:
فقد سبقت فقرة تحتاج إلى تعليق ووقفنا عندها في الدرس الماضي، وهي كلام الإمام النووي شارحاً ما في الحديث: (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم) [ صحيح مسلم 1064]، يتلون كتاب الله تعالى ليناً رطباً، فقال الإمام النووي: “هكذا هو في جميع أكثر النسخ ليناً بالنون، أي سهلاً”.
فكتاب الله سهل، يسَّره الله تعالى للذكر، وهو مُيَسَّر على مَن يسَّره الله تعالى له.
قال: “هكذا هو في أكثر النسخ ليناً بالنون، أي سهلاً”، وهذا هو سر كثرة حِفظ الناس لكتاب الله عز وجل، فإن سنة الله في بقاء الخَلق ؛ بقاء كتاب الله تعالى بينهم ، ولا تقوم الساعة حتى يُرفع كلام الله تعالى، فيصبح الناس لا يقرأون شيئاً من كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال:
أي سهلاً، ليناً سهلاً، ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17، 22، 32، 40].
وقلت لكم: إن كثيراً من الأعاجم يحفظون كتاب الله مع أنهم لا يفهمون منه كلمة، بعض الناس لا يُحسن أن يقرأ إلا كتاب الله، لا يعرف العربية، فقط يُحسن قراءة كتاب الله، لين، سهل، سهل على مَن سهَّله الله عليه.
واعلم ما أقبح ذاك طالب العلم، وحاشاكم أن تكونوا منهم، لا ينظرون في كتاب الله ولا يقرأون كتاب الله، وعندهم مكتبات ضخمة، ويتجولون في أفيائها، ويقرأون لفلان وعلان، ولكنهم للأسف مقصرون مع كتاب الله عز وجل!
والأصل في العبد أن يبدأ نهاره بكتاب الله، وأن يكون له ورداً من كتاب الله عز وجل، امتثالاً لأمر النبي ﷺ.
«عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو أنَّهُ سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في كم يقرأُ القرآنَ قالَ: في أربعينَ يومًا. ثمَّ قالَ: في شَهرٍ. ثمَّ قالَ: في عشرينَ. ثمَّ قالَ: في خمسَ عشرةَ. ثمَّ قالَ: في عشرٍ. ثمَّ قالَ: في سبعٍ. لم ينزل من سبعٍ.
الراوي : عبدالله بن عمرو | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود
الصفحة أو الرقم: 1395
«ولم يفقه كتاب الله من قرأه في أقل من ثلاث».
[ صحيح البخاري 5052، صحيح مسلم 1159].
فالأصل في طالب العلم على أسوأ أحواله أن يقرأ كتاب الله كل أربعين يوماً.
واستنبط الإمام أبو حنيفة رحمه الله من مدارسة جبريل للنبي ﷺ القرآن كل عام، إلا في العام الذي توفي فيه فقد تدارسه معه مرتين، أنه يجب على المسلم أن يقرأ القرآن مرة في كل عام قراءة تدبر، أن تمر على تفسير، ابدأ حياتك أن تمر على تفسير موجَز، ثم انتقل إلى تفسير متوسط، ثم انتقل إلى تفسير مُطوَّل، وليكن التفسير المُطوَّل الذي يساعدك في تخصصك، فإن اشتغلت في الحديث فاقرأ تفسير ابن جرير، وإن انشغلت بالفقه فاقرأ تفسير الإمام القرطبي، وإن اشتغلت في علوم العربية فاقرأ تفسير البحر المحيط، وهكذا أن تتوائم في تقدمك في الطلب مع كتاب الله عز وجل، فحينئذ تكون راسخاً في العلم.
لا يمكن أن يكون طالب العلم راسخاً في العلم وهو بمعزل عن كلام الله عز وجل.
لذا قال الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات رحمه الله: “الراسخ في العلم الذي إن سُئل عن مسألة بدأ جوابه بـ (قال الله) .
يبدأ بـ (قال الله)، ثم بعد ذلك ينطلق ، فالقرآن الكريم مُـجمَّعٌ للعلوم كلها، ومَن قرأه أو درَّسه بتؤدة، وبفهم وإحاطة بأقوال السلف، وجد رسوخاً في العلم وثباتاً في الحق.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح سورة نوح في 13 عاماً، 13 عاماً وهو يشرح سورة نوح، وكان يندم على الوقت الذي قضاه في غير القرآن وخدمة القرآن، فالقرآن كما قال النبي ﷺ سهل لين.
قال ﷺ في الحديث:
ليناً رطباً.
ليِّن سهل.
منهم مَن قال بدل لياً ، بإسقاط النون، قال: قال الشارح:
“وفي كثير من النسخ لياً بحذف النون، وأشار القاضي إلى أنه رواية أكثر شيوخهم”.
هذا النقل غلط عند القاضي عياض، الكلام عند القاضي عياض في الجزء الثالث من إكمال المُعلِم صفحة 609، قال بالضبط: “رواه بعض شيوخنا”، وفرق بين قول القاضي عياض: “رواه بعض شيوخنا”.
وفرق بين قول القاضي عياض :
“رواه بعض شيوخنا” ، وبين نقل الإمام النووي:
“قال رواية أكثر شيوخهم”.
ورواية البعض وليست رواية الأكثر، وهي رواية مرجوحة وليست براجحة، لأن النبي ﷺ قَرَن اللين بالرطب، ولا يقبل الاقتران بين الرطب ، وهو الذي نزل في تلك الساعة، إذ أن هذا الحديث كان قاله النبي ﷺ في غزوة حنين والقرآن ينزل عليه، وكان بينه وبين خروج الخوارج وقت قصير ويسير وليس بوقت طويل.
فلا يقال “لي” رطب و “لي”، وإنما يقال رطب ولَيّن ، لا يقال هذا.
الرَّطب هو اللين، كان ليناً، الناس فيما بعد أصبح القرآن عسراً عليهم في حياتهم، وبسبب معاصيهم، فلو بقوا على الفطرة، وبقوا يضبطون ضبط صدر وليس ضبط سطر، فكان العرب مشهورين بضبط الصدر بالحفظ، إذ البيئة التي كانوا يعيشون فيها كانت تساعدهم على ذلك، وكذلك طعامهم وشرابهم، وعدم إسرافهم في الطعام، فكانت حياتهم تُـيسِّر لهم حفظ كتاب الله عز وجل، فهو لين عليهم.
انظروا الآن إلى اللي ، أسقط بعض الشيوخ وليس كل الشيوخ النون فقال: رطباً ليناً، وهما لا يتجانسان الرطب مع اللي ، وإنما الذي يتجانس الرطب مع اللين، مع اللين.
قال: “وفي كثير من النسخ لين بحذف النون، وأشار القاضي أي القاضي عياض إلى أنه رواية أكثر شيوخهم”، قال: “ومعناه سهلاً لكثرة حفظهم”، هذا اللين صحيح، سهل، سهل لكثرة الحفظ.
لما كثرت المعاصي أصبح الحفظ صعباً، ولذا الشافعي لما وجد صعوبة في الحفظ شكى لشيخه وكيع فقال رحمه الله في بيتيه المشهورين:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي
فأرشدني إلى تركِ المعاصي
وأخبرني بأنَّ العلمَ نورٌ
ونورُ اللهِ لا يُهدَى لعاصي
[ ديوان الإمام الشافعي (منسوب)]
العلم نور، وعلى رأس العلم وتاج العلم القرآن، والقرآن يعسر حفظه على صاحب المعاصي، وأخبرني بأن العلم نور، ونور الله لا يُهدى لعاصي.
لذا قالوا لبعض السلف: “أشكو من صعوبة الحفظ”، قال: “استعن بذلك على ترك المعاصي”، اترك المعاصي تحفظ، اترك المعاصي تحفظ كلام الله عز وجل.
المصدر:
شرح صحيح مسلم – فضيلة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان حفظه الله.
22 جمادى أول 1447 هـ
13 نوفمبر 2025 م✍️✍️
◀️ الرابط في الموقع الرسمي :
