فأنصح نفسي وإخواني في هذه الأيام ونحن في شهر من أشهر الله الحرم ومقبلون على شهر ذي الحجة وعلى الأوائل منها على وجه الخصوص، بأن نقلع عن الذنوب، وربي تعالى لما ذكر الأشهر الحرم قال: ﴿فَلَا تَظۡلِمُوا۟ فِیهِنَّ أَنفُسَكُمۡ﴾ [التوبة ٣٦]، ويقول الله عز وجل: ﴿وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُ﴾ [الطلاق ١]
الأشهر الحرم المعاصي فيها تعظم وتكبر.
والواجب على العبد أن يتوب وأن يقلع عنها وهي ثلاثة سرد وواحد فرد تبدأ من ذي القعدة الذي نحن الآن في أواخره ثم ذي الحجة ثم المحرم، وأما الفرد فهو رجب.
هذه الأشهر الحرم عند الله جل في علاه.
أحسن واجب يقوم به المكلف في هذه الأيام أن يسعى لإسقاط ركن من أركان الاسلام وأن تبرأ ذمته من فريضة الحج التي أوجبها الله تعالى مرة في العمر، وهذا الواجب يتعين على كل مكلف مستطيع، والاستطاعة يتفاوت فيها الناس، وأقل ما يجب على العبد أن يتضرع إلى ربه سبحانه وأن يرزقه هذه الفريضة، ولا يدري العبد كيف ييسر الله تعالى الأسباب.
أفضل عبادة في هذه الأوقات هي عبادة الحج، وأن يسعى العبد حثيثا وأن يبذل الذي يستطيع لفعل هذا الركن، هذا في حق من لم يؤدها، وأما من أداها فيتفقد الإنسان نفسه، فعلى الأقل يجهد الإنسان أن يحج كل خمس سنوات مرة لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ اللهَ يقولُ: إِنَّ عبدًا أَصْحَحْتُ لهُ جِسْمَهُ، ووسَّعْتُ لهُ في مَعِيشَتِه، تَمْضِي عليهِ خمسَةُ أَعْوامٍ لا يَفِدُ إِلَيَّ إنَّهُ لَمَحْرُومٌ.
الألباني (ت ١٤٢٠)، السلسلة الصحيحة ١٦٦٢.
الذي لا يحج ولا يعتمر كل خمس سنوات مرة فهو محروم.
ومن لم يقدر لا على هذا ولا على هذا فليجد وليجتهد في الطاعة والعبادة ولا سيما أننا مقبولون على العشر الأوائل من ذي الحجة والأعمال فيها عند الله هي أفضل الأعمال وهي كما في الصحيحين مقدمة على الجهاد في سبيل الله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر – قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» [رواه البخاري].
أول عمل صالح يقوم به العبد وأفضل الاعمال على الاطلاق في هذه العشر أن تتفقد الواجبات والأوامر فتفعلها:
فقاطع الرحم يصل رحمه.
وتارك القرآن أن يتدبر القرآن ويقرأ القرآن.
وتارك العلم يطلب العلم.
والمسيء للناس عليه أن يحسن اليهم ويستسمحهم.
وتارك الزكاة يؤدي الزكاة.
والمرأة التي تركت قضاء رمضان مما أفطرت بعذر فتتوب إلى الله جل في علاه ولا تتمادى، فتكثر من الصيام وهكذا.
ومن وجد نفسه كذلك فلله الحمد والمنة هو على خير وفعل الواجبات التي يقدر عليها، وما أمرتكم بشيء فافعلوه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتُكم فإنَّما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتُم». متفق عليه.
فالاوامر الإنسان يفعل منها ما يستطيع والنواهي الواجب عليه أن يجتنبها، فمن تفقد نفسه ووجد الأمر كذلك فهو على خير فلله الحمد والمنة يتعطر ويتطيب بسائر الطيبات والخيرات من الأعمال الصالحات، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الذكر والتحميد والتكبير والتهليل.
وقد علق الإمام البخاري عن بعض أصحاب رسول الله كابن عمر وأبي هريرة أنهم كانوا يذهبون للسوق ويكبرون الله تعالى ويذكرون ويُذكّرون الناس بذكر الله جل في علاه
فهذه الأيام الاعمال الصالحة فيها محببة إلى الله عز ط، ويغفل عن هذا كثير من الخلق، وكثير من الناس بين يدي أعظم يوم من أيام السنة وهو يوم النحر.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر. رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه الألباني.
ويوم القر المراد به أيام الاستقرار بمنى.
هذه الأعمال الصالحة تكون بمثابة الأعمال الصالحة من القيام بالليل قيام رمضان وصيام النهار في رمضان بين يدي ليلة القدر، فالله أكرمنا فجعل ليلة القدر في الآخر حتى يتدرب الإنسان، والله أكرمنا فجعل اليوم العاشر وجعل قبله تسعة أيام يجاهد الإنسان نفسه فيها حتى إذا وصل إلى أحب الأيام إلى الله وهو يوم النحر يوم العاشر من ذي الحجة وهذا اليوم الذي يحرم على العبد أن يصوم فيه ويفرح بذكر الله عز وجل وشعاره تكبير وشكر لله وتوسع على نفسه في المطعم والمشرب، ألا إن أيام منى أيام أكل وشرب.
هذه الثمرة التي تكون بين يدي الطاعات في العشر الأوائل من ذي الحجة.
هذا البرنامج العام المقدمون عليه في الأيام القليلة الباقية فارصد، وعليك بحسن إدارة الوقت والاستفادة من كل لحظة من هذه اللحظات، وحدد هدفك، وهدِّف بإذن الله حتى تصيب الهدف أو تحوم حوله، سددوا وقاربوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم” لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا، ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ: إمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدادَ خَيْرًا، وإمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ.”
الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري: 5673.
فهذه الأيام المقبلة أيام تحتاج إلى جد وتحتاج إلى تشمير وتحتاج إلى همة وتحتاج إلى إقلاع عن العادة والمألوف والغفلة وتحتاج إلى الاخبات والإقبال على الله ومحاسبة النفس وكثرة الذكر وكثرة الإقبال على الطاعة والعبادة.
وكما قلت لكم العبد السعيد في هذه الحياة الذي يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
بعض الخلق عنده آفات وعنده أمراض كما قال الله عز وجل: ﴿بَلِ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِیرَةࣱ﴾ [القيامة ١٤].
والواجب على الإنسان أن يتطبب في هذه المشافي، في هذه المستشفيات أن يتطبب.
وإن لربكم في دهركم نفحات فتعرضوا لها.
فلله نفحات في هذا الكون والعاقل يتعرض لها.
كل أدرى بمرضه، والواجب أن يجاهد الإنسان وأن يقلع عن هذا المرض. بعض الناس مرضه في لسانه، وبعض الناس مرضه في قلبه، وبعض الناس مرضه في إرادته، وبعض الناس مرضه في جهله، وبعض الناس مرضه في عجبه.
رحم الله أئمة الهدى كالإمام ابن القيم في الإعلام قال: من قرأ (إياك نعبد) فهذا علاج من الرياء، ومن قرأ (إياك نستعين) هذا علاج من العجب، ومن قرأ (اهدنا الصراط المستقيم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) قال هذا علاج من الجهل وعلاج من فساد الإرادة.
فهذه صورة هي صورة شفاء للأبدان والأرواح.
اسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم أن نغتنم هذه الأوقات، وأن يرزقنا فيها الطاعات، وأن يجنبنا الشرور والمنكرات.✍️✍️