كلمة عن الاستقامة.
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضِلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
أمّا بعد:
فيقول الله -عزّوجلّ-: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزلاً من غفور رحيم.
الاستقامة على معرفة الله، الاستقامة على تعظيم الله -عزّ وجلّ-، وعلى خوف منه بالغيب، ولا تكون الاستقامة إلّا بهذا.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وهم في سكرات الموت، والملائكة كما ذكر ربنا تعالى، قال:
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَاتحزنوا، ينتقلون من دار إلى دار، فبدأ الله تعالى بالطمأنينة على الدار التي ينتقلون إليها، قال: فلا تخافوا ، لاتخافوا ممّا أنتم مقدمون عليه.
والإنسان في حال التغير من دار إلى دار يحتاج أولًا أن يطمئن.
ثم قال الله -عزّ وجلّ- ولاتخافوا على ما تركتم من زوجة، ومن أولاد، وماتركتم من ذرية، لا تخافوا عليهم.
ثم قال: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ ، فهؤلاء الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، الله وليهم في حياتهم الدنيا يحفظهم من كل شر، ومن كل ضر، ومن كل سوء، وهو وليهم في الآخرة.
الله الربّ -جلّ في علاه-، والربّ هو المالك والسيد، وهذان أمران يستوي فيهما الخلق، والله -جلّ في علاه- المربي، والتربية لبعض أوليائه ليست كالتربية لسائر الناس.
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
لذا قال العلماء مستنبطين من هذه الآية، قالوا: (الولاية عين الاستقامة)، فأكبر ولاية لله أن تستقيم على أمره.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا.
علموا الله -عزّ وجلّ- بأسمائه وصفاته، واستحضروها
وعرفوا أحكامها والتزموها، واستقاموا على هذا، فالله يقول عنهم: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
لذا كان (الإمام الشافعيّ) -رحمه الله تعالى- يقول: إذا لم يكن العلماء أولياء الله فإنّي لا أعلم من هم.
وهنا مسألة مهمّة، لاينتبه لها إلّا الموفّق، عطايا الله وفتوحاته وتعليمه للعلماء، وحمايته لأوليائه أبلغ وأنفع من جريان الكرامات على أيددي أوليائه.
مَن الأنفع أن تجري الكرامة على يد الولي، أم أن يفتح الله عليه وأن يعلمه وأن يحفظه؟
الثانية أنفع من الأولى، وإن كان أثر الثانية لا يظهر للنّاس، لكن صاحبها الذي يستقيم على أمر الله -عزوجل- هو الذي يشعر بذلك.
فالاستقامة هي عين الولاية.
والاستقامة لا تكون إلّا بالعلم،
وإلّا بمعرفة الله تعالى.
وهنا مسألة وهي مهمة، المعرفة معرفتان:
١ – معرفة بالله وتعظيمه.
٢ – معرفة بأوامره وأحكامه.
الولاية بأيّهما ألصق، بمعرفة الله أم بمعرفة أحكامه؟
بمعرفة الله لابمعرفة أحكامه.
لذا ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أوصني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قل ربي الله ثم استقم).
فالاستقامة عزيزة، والاستقامة مأمور بها العبد.
ولكن أنَّا للعبد أن يحقق الاستقامة على وجه الكمال الذي يحبه الله.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يقول النبي صل الله عليه وسلم: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأخَوَاتُها، رواه الترمذي.
الشيب الذي في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب امتثال هذه الآية.
يقول (ابن القيم) رحمه الله في (المدارج): الذي شيبه صلى الله عليه وسلم من سورة هود قول الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
من سيد المستقيمين؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأمل معي.
هناك أشياء ينبغي أن تكون حاضرة، ولا يجوز أبدًا أن تغيب عن الذهن.
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ.
من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خير الخلق لا يمكن أن يستقيموا الاستقامة التامة إلا بالتوبة والإنابة المرة تلو المرة.
الله يقول: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ.
الاستقامة لا تكون إلا على أمره،
والاستقامة لا تكون إلا بامتثال الوحي.
الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، كما أُنزلت عليك من أحكام.
الاستقامة لا تكون بأن تفهم دينك فهما بالفكر، وأن تقارع العلمانيين وغيرهم ، مقارعتهم هذا نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، أن تقارع العلمانيين والمجرمين والبعيدين عن أحكام الله هو جهاد، لكن في سلوكك مع ربك وطريقك إليه لابد أن تعرف أحكامه، وأن تستقيم على أمر الله عز وجل.
قد يكون الطبع يحب العبادة، فتقع بسبب الطبع طغيانًا وزيادةً، والله جل في علاه قال: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا»، استقم على الحد والوجه والطريقة والمقدار الذي يحبه الله عز وجل.
تأمل معي آيات أخرى في الاستقامة لتعلم أن هذا الأمر هو للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس له بخاصة، وإنما هو أيضاً لأتباعه، الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ.
وهل الأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم يشمل سائر أفراد أمته؟
الجواب: في التأصيل العلمي، والمبحث الأصولي أن الأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم يشمل أمته ما لم تأتِ قرينة تبين أن هذا الأمر خاصٌ به صلى الله عليه وسلم.
قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ.
قال: فاسْتَغْفِرُوهُ، الأمر للأمة الآن، «فاستقم» كان الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، «فاستقيموا إليه» أصبح الآن الأمر لأمته، جاء بعد «واستقيموا» «فاستغفروه»، قوله: «فاستغفروه» في هذه الآية، كقوله في سورة هود: «ومن تاب معك».
الاستقامة عزيزة، والاستقامة صعبة، ولما كانت كذلك فالمستقيم يحتاج إلى الإستغفار دومًا، ومع هذا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم والليلة مائة مرة، وفي بعض الروايات أكثر من سبعين مرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في ترقٍ دائم، فهو اليوم يستغفر من مقامه لأمس، فهو في ترقٍ مع الله عز وجل، منزلته عند الله ترتفع، وكلما مضى عليه يوم ارتفعت منزلته، فهو دائمًا يستغفر، اليوم يستغفر من مقام أمس، وغدًا يستغفر من مقام اليوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دائما في ترقٍ.
أما سائر الناس فكما قال الله تعالى: لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، بل من أشراط الساعة أن يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يقع في تذبذب، حاله في أول النهار عندما يحضر الدرس غير حاله في آخر النهار عندما يقارع الناس أو يتساهل قليلا في شيء من التبقر والتوسع في المباحات أو بغفلة، فيجره هذا الأمر إلى والعياذ بالله تعالى إلى قساوة قلب وسوء حال مع الله عز وجل.
تأمل معي الآية مره أخرى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَاالله ثُمَّ اسْتَقَامُوا،موقع يوحى إلي في الآية هذه، كموقع كما أمرت في سورة هود، النبي عليه السلام يوحى إليه، ولا تكون الاستقامة إلا كما أمرت (إلا بالوحي)، إنما إلهكم إله واحد، إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين، الذين هم على نقيض الاستقامة بالكلية هم المشركون، لكن الاستقامة عزيزة،فاستغفروه.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا واعلموا أنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم.
ما معنى سدد وقارب؟
يعني عندك هدف إن رميت سدد وقارب، لا تبعد، إذا ما استطعت أن تحقق الاستقامة فالتسديد والمقاربة، وهذا حال أغلب الناس، حال أغلب الناس التسديد والمقاربة، سددوا وقاربوا، فمن من لم يستطع منكم الاستقامة وأن يصيب عين الهدف فلا يبعد عن الهدف، فيسدد ويقارب ويرمي حوالي الهدف، ما يكون الهدف هناك ويرمي هناك، كحال كثير من المصلين، فكأنه أعور أو أعمى والعياذ بالله تعالى في سيره وطريقه إلى الله عز وجل، سدد وقارب، كن يقظًا، كن منتبهًا كن مبصرًا، فإن رميت وأردت الهدف، فإن ما أصبته لا تيأس، إذا ما حصلت الاستقامة على وجه التمام والكمال فلا تيأس، الشيطان يأتي لبعض الناس فيكبر له بعض المخالفات التي يقع فيها، ويحاول أن يجره إلى طريق الغواية، ويبعده عن طريق الاستقامة بالكلية، ويجعله ينسلخ منها لعسر إصابته عين الهدف، فالنبي عليه السلام قطع هذه الوساوس، وهذه المداخل على العبد بقوله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا»، فإذا ما استطعت أن تحصل عين الهدف، فسدد وقارب، واتقِ الله ربك، واحرص على الاستقامة.
فإذا الاستقامة تحتاج لمعرفة بالله، وأن يمتثل العبد آثار أسماء الله وصفاته سبحانه، ويحتاج أن يعرف شيئًا من أوامر الله، فقد تتحقق الاستقامة من غير العلماء، وقد لا يحقق العبد الاستقامة، لأن الاستقامة تحتاج إلى معرفة الله عز وجل، ومعرفة المكلف ما يحتاجه من أوامر الله عز وجل، ثم الاستقامة تحتاج إلى معتقد سديد ومعتقد سليم، وأن يعرف العبد الله جل في علاه، وأن يعلم أنه لا يغيب البتة عن بصر الله وعن سمع الله.
تأمل معي قوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، فالعبد الذي يعرف الله، والذي يقول ربي الله، ومعرفته بالله معرفه شرعية، هذا الذي يكرمه الله تعالى بالاستقامة،فالاستقامة أسُّها ولبها ومنبعها وأساسها الذي تنبني عليه أن تعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته، ولا سيما أن تعلم أنك لا تغيب عن بصر الله عز وجل ولا عن سمعه «إنه بما تعملون بصير».
أرجو الله جل في علاه أن ينفعنا بهذه الكلمات.
⬅ مجلس فتاوى الجمعة
٢٠ ذو الحجة – ١٤٣٩ – هجري
٣١ – ٨ – ٢٠١٨ إفرنجي
↩ رابط الكلمة:
⬅ خدمة الدرر الحسان من مجالس الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان.
⬅ للاشتراك في قناة التلغرام http://t.me/meshhoor
⬅ للاشتراك في الواتس آب
+962-77-675-7052