السؤال الأول:
يَسألُ بعضُ الأخوةِ عن الحج، لماذا كان الحَجُّ مرَّةً في العُمرِ؟
ولماذا أخَّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الحجَّ إلى آخرِ عُمرهِ؟
ومن المعلومِ أنَّ الواجبات الأصلُ فيها أن تكون على الفَوْرِ.
فما هو سِرُّ تأخيرِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الحَجَّ إلى آخرِ عُمره؟
الجواب:
الشِّقِ الأول وردَ في الحديثِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ” أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا”.
فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَوْ قُلْتُ نَعَمْ ؛ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ “. (مسلم ١٣٣٧)
فمنْ رحمةِ الله بِنا أنَّ الله تعالى أوجبَ علينا الحجَّ للمستطيعِ مرَّةً في العُمرِ.
وقوله: لو قُلتُ نعم: إشارة إلى أنَّ الأمرَ كان مُمكنًا، وقد فرضَ الله تعالى على نبَيِّه صلى الله عليه وسلم خمسينَ صلاةٍ في المعراجِ، ثمَّ لمَّا مرَّ بموسى عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام ؛فأخبرَهُ أنَّ الله تعالى قد فرضَ على أُمَّته خمسينَ صلاةٍ، قال: يا مُحمّد إنك لم تبلو النَّاس، أنا بَلوتُهم وإنَّهم لا يستطيعون، فارجع إلى ربِّك واسأَله التَّخفيف.
صحيحِ مسلمٍ رقم ١٦٢.
فَمِن رَحْمة الله تعالى بنا أنْ خفَّفَّ علينا، ورفع عنا الآصار والأغلالَ التي كانتْ على مَن قبلَنا؛ ذلك أنَّ دينَنا دينٌ خالد، الدِّين الخاتم، الدينُ الباقي لله عز وجل إلى يومِ الدِّين، الشرائعُ السابقة كانت مُؤقَّتة، كانت سَتُنسخ بِبعثة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
والشَّريعة الباقيةُ لا بُدَّ أن تكونَ وَسَطًا، لا وَكسَ فيها و لا شطط، فالشَّريعةُ الباقيةُ الخالدةُ لا بُدَّ أن تكونَ وَسَطا، لا يُحمَّل أصحابُها ما لا يستطيعون، فَمِن رحمة الله تعالى بنا أن جَبرَ كسرَنا وراعى ضعفنا، فغفرَ لنا سُبحانه، وفتحَ لنا بابَ التَّوْبة، وباب التَّوْبة مفتوحٌ إلى يوْم القيامة، وأنَّ الله يقبلُ العبدَ وإنْ بَلغت ذُنوبُه عنانَ السَّماء، وهذا لُطفٌ من الله بنا، وأنَّ من عصى الله، فسترَ على نفسه؛ فإنَّ الله يسترُ عليه بخلافِ من كان قبلَنا اليهود.
اليهود كان الواحدُ منهم إذا عصى الله استيقظَ ووجدَ المعصيةَ مكتوبةً على بابِ بيتِه.
أخبرني بعض الإخوان من الأساتذةِ في هذا المسجدِ مِمَّن درَس في بريطانيا، يقول: كُنتُ أدرس وكان جيراني في السَّكن من اليهود، فما زالوا قبل أن يناموا يكتبون معاصيهم على أبواب بُيوتهم ، للآن يكتبون معاصيهم على أبواب بيوتهم: فعلتُ كذا وكذا، هذه فضائح -نسأل الله الرحمة.
فمن بركة الله ورحمته بنا أنَّ الله عزَّ وجل ما أوجبَ الحَجَّ علينا إلا مرةً واحدةً، ذلك أنَّ للطَّاعةِ والعباداتِ و أركانِ الإسلام أسباب:
– فسببُ الصَّلاة دخولُ الوقتِ ودخولُ الوقتِ مُتجدِّد.
– وسببُ الزَّكاة بلوغُ النِّصاب مع حولان الحَوْل، وهو مُتجدِّد.
– وسببُ الصِّيام رُؤيةُ الهلالِ (شُهود الهلال)، من شَهِدَ الهلالَ عليه أن يصومَ وهو مُتجدِّد.
– وسببُ الحَجِّ وجودُ بَيْت الله الحرام، وبَيْت الله الحرام ليسَ مُتجدِّد.
يعني: هو لا يتجدد كتجدُّد الأهِلَّة في الحَجِّ، والأهِلَّة في الصِّيام ودخولُ وقت الصَّلاة.
أمَّا لماذا أخَّرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلَّم- الحَجّ؟
فُهوَ أيضًا لحِكمة، وهذه الحِكمة قد تظهر وقد تخفى.
اللهُ عزَّ وجَل أخبرنا أنَّ كفَّار قُرَيْشٍ كانوا يعملونَ بالنَّسيئة، فكانوا يلعبونَ بالأشهرِ، وهذا الأمرُ امتدَّ فترةً طويلةً في تاريخِ البشريَّةِ.
والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا خطبَ يوم عرفةَ قال: “إِنَّ الزمان قد استدارَ كهيئته يوم أنْ خلق الله السماواتِ والأرض”. متفق عليه.
يعني: في العام الذي حجَّ فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم انتهى أثرُ النَّسيئةِ واللَّعِب بالأشهُر.
ونظام النَّسيئة يحتاج لدراسة، والجصَّاص في تفسيرِ سورة التَّوْبة لمَّا ذَكرَ الله عز وجل آيةَ النَّسيئة، ذَكرَ عن عالِمٍ في الحساب، مكث ثمانِ سنواتٍ وهو يحسب، وبرهنَ أن النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم- لمَّا حجَّ بدأ الكَوْن دوْرةً زمانيةً جديدةً، ومعنى هذا أنَّ الحجَّ قبلهُ كان في غيرِ وقتِه.
وهُنالِك مسألةٌ يبحثها عُلماؤنا وفقهاؤنا قديمًا وحديثًا: أيُّ الأشهرِ أحبُّ إلى الله لأداء العمرة؟
قالوا: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ ثلاثَ مراتٍ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ في ذي القَعْدة، ومنهم من فَصَّل وقال: أفضل شيء في رمضان ثم ذي القَعْدة، ومنهُم من قال: ذي القَعدة أفضل من رمضان؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان إنَّما اعتمر بذي القَعدة.
حقيقةً: المسألة تحتاجُ إلى بحث، ويَسَّرَ اللهُ لي أن قرأتُ كتابًا وصلني، كتاب الكرماني، ذكر فيه مُفصَّلاً طريقة النَّسيئة التي كانت عند العرب، فأصبحَ بيْنَ أيدينا الآن معلومات دقيقة خصوصًا مع استخدامِ الحاسوبِ ولو بَعُدَ الزَّمن.
هل النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا اعتمر في ذي القَعدة، كانت العُمرة الأولى مثلاً في أول ذي القَعدة الثانية أو ما شارف الأول، والثانية كانت في وَسط ذي القَعدة أو ما شارف الوَسط، والثالثة كانت في آخر ذي القَعدة فجاء الحجُّ فدخل الحجُّ في وقته، وما قبلَه كان في ذي الحجة؟
فعُمرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في توْقيت العرب في ذي القَعدة، ولكن عند الله في النَّسيئة كانت في ذي الحجَّة؟
هذه المسألة تحتاج لدراسة.
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ في حديثٍ فيه ضَعف، وهي من أخبار الجاهلية، أنه حَج في الجاهلية قبل الإسلام، ولمَّا رآه الجُبير بن مُطعم في عرفة قال: ما لهذا الشاب من الحُمسِ (يعني من قريش) في عرفة؟
فقريش لم تكن تقف في عرفة.
فالشَّاهد أن لتأخير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حكمة، والحِكمُ الذِّهنُ فيها يذهب كثيرًا منها تأخيرُ النَّبيُّ للحَج قالوا: هذا دليل على أنَّ الحَجَّ على التَّراخي وليسَ على الفَوْرِ، ولكن العِلَّة السَّابقة إن صحَّت فيُصبحُ القَوْلُ بأنَّ الحجَّ على التَّراخي؛ لأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أخَّر الحَجَّ يُصبح فيه كلام وفيه نِزاع، هذه واحدة.
الثانية: العرب كانت تطوفُ في البَيْتِ إلى ما قبل حِجِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعام، النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حجَّ في العاشر، وفي العام التَّاسع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أرسلَ أبا بكر فحَجَّ أبو بكرٍ وجَمعٌ من الصحابة معه، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يُؤذِّن في النَّاس: “لا يَحُج بعد هذا العام مُشرك” متفق عليه.
يعني: لا يَحُج مُشرك على طُقوسهم.
والطقوس: كان الرِّجال والنِّساء يطوفون سواء، وكانت المرأة تطوف عُريانة والرجال يطوفون عرايا، قالوا: كانوا في النَّهار يجعلون الطَّواف للرِّجال وفي اللَّيل يجعلونَهُ للنِّساء، فأمر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم أن يُؤَذَّن في قبل العامِ الذي سيذهبُ إليه؛ حتى لا يرى مثل هذه المسائل.
كانت المرأة -كما في صحيح مسلم – من حديث جابر :” كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا، تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ، فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ” (مسلم ٣٠٢٧)، تريدُ فرجها: اليوْم يبدو الفرج كله أو بعضه، وما بدا منه لا أُحلُّ لمن يراني أن ينظرَ اليه.
جاهلية والشياطين يلعبون بهم.
والله يقول :{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [ الأنفال: ٣٥] ، يعني: الذي يطوف يُصفِّق ويُصفِّر وهو يطوف!.
تخيّل أناسٌ يطوفونَ عرايا ويصفقون ويصفرون! هذا صنيع الشياطين.
فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبطلَ هذا الصَّنيع قبل أن يذهبَ للبَيْت، قبل أن يطوفَ بالبَيْت، أبطلَ هذا الصَّنيع والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طاف بالبَيْتِ.
وولايةُ بَيْت الله تعالى كانت للمُتقين، وخرجت هذه الوِلاية عن المُشركين، وأسأل الله أن لا تعود إليهم اليوْم.
اليَوْم بعض الدُّول الغاشمة التي تتستَّر بالإسلام تُطالب بتدْويل الحَرمَيْن، وأن يكونَ لهم نصيب في هذا التَّدويل، ولذا يُسجِّلون و يصنعون دائِمًا الفِتن في مكة، وظهر هذا جليًّا أسأل الله العافية، حتى يتمكنون من هذه الفكرة الآثمة.
*فالشَّاهد أنَّ الحجَّ للمستطيع الذي أراه راجحًا واجبٌ على الفَوْرِ،* *الذي يستطيع أن يحُج ويُقصِّر فهو آثم،* *فهو واجب على الفَوْر.*
*والواجب على العبدِ أن يبذُل جهده في كُل عامٍ أن يَحج، فإن لم يستطع فهذا لا يجزيه في العام القادم وعليه أن يجتهد،*
وكُلٌّ يِجتهدُ على حسبِ وِسعه حتَّى يتمكن المُسلم من فريضة الحج، ولو سلكَ طُرقا (لا أقول غير قانونية ولا أقول غير مشروعة)، لكن فيها تعريض وفيها سبيل للتَّمكين من الحج.
بعض إخوانِنَا الآن تكونُ عنده إقامة، ويكون قصده من الإقامة أن يتمكَّن من حج بيت الله تعالى، وهذا أمرٌ حسن، وبعض إخواننا التُّجار يُحصِّل تأشيرة ( التي تُسمَّى التجارية) ويدخل مكةَ ويحج، وهذا أمرٌ حسن.
فمن لا يستطيع الحَجَّ بعد ذلك وبذل وسعه فما استطاعَ الحجَّ فحينئذ لا شيء عليه هذا.
والله تعالى أعلم.
⬅ مجلس فتاوى الجمعة
16 ذو القعدة 1437 هجري
2016 / 8 / 19 افرنجي
↩ رابط الفتوى :
◀ خدمة الدُّرَر الحِسان من مجالس الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان .✍✍?