أحكام شهر شعبان.
فقد ثبت عن عائشة – رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : « كنا نقضي ما فاتنا من رمضان في شعبان، ننشغل بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلـم -».
هذا النوع من الأحاديث عند المحدِّثين موقوف لفظاً ، ومرفوع حُكماً ، فهي تُخبِر – لا أقول عن نفسها فقط – وإنما تُخبِر عن سائر أزواج النبي – صلى الله عليه وسلـم : أن الذي يصيب بنات حواء من العُذُر الشرعي – وهو الحيض والنفاس – ، والذي يحرُمُ على المرأة أن تصوم من أجله ، وإن صامت ؛ فصيامها غير معتبر ولا معتدٌّ به ، ويجب عليها القضاء على كل حال .
تقول : كنا نفطر في رمضان ثم نقضي ما فاتنا في شعبان.
فالواجب علينا نحن الآن أن نُذكّر أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا بوجوب القضاء ، وكثير من النساء يغفلن عن القضاء .
ويحرُمُ شرعاً أن يدخل رمضان والمرأة لم تقض ما عليها ، وقول عائشة – رضي الله تعالى عنها- يتحمّلُ فقهاً كثيرا، وأُشيرُ إلى أهم مسائله ، لأنه واجب الوقت ، فأقول – وبه سبحانه وتعالى أصول وأجول :
الأصل عند أهل العلم في الأوامر أنها على الفور، فمن كُلِّف بأمر فالواجب عليه أن يمتثل مباشرة، وهذا مقتضى اللغة ، فمن قال لسيِّدِهِ : اسقني ماءً ثم تراخى فأسقاه بعد حين ؛ عُدّ مُقصِّرا ، ولو أنه عاقبه ؛ لما لِيم في ذلك.
وعائشة تقول : ( كنا نقضي ما فاتنا من رمضان في شعبان ).
فما أدّت ذلك مباشرة وإنما أدته على التراخي، ومِن التوسع غير المحمود أن ننسى الأصل، وأن نتغافل عن التعليل.
الذي قالته بعد التأخير في القضاء ، فقالت : ( كنا ننشغل بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- ).
فلو لم تكن هي وسائر أخواتها مشغولات بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلـم – من قدوم أضيافه ووفوده وكثرة أسفاره وغزواته ؛ لما أخّرت -رضي الله تعالى عنها وعن سائر أمهات المؤمنين – القضاء.
والمسألة الثانية المهمة التي نستفيدها من قولها :
أن العذر في تأخير القضاء أوسعُ من العذر في الإفطار.
الأعذار التي يجوز للمكلّفِ أن يُفطِر بها ؛ معدودة محصورة ، وأمّا تأخير القضاء فأمرُهُ واسع ، فقالت – رضي الله تعالى عنها : أنها كانت تقضي هي وسائر أخواتها في شعبان ، ما فاتها من صيام في رمضان ؛ في شعبان ، وعلّلت ذلك بالانشغال في أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلـم -.
المسألة الثالثة – وهي مهمة أيضاً – : أن القضاء بعد النصف من شعبان؛ لا مانع فيه – قولاً واحداً -.
ما ينبغي لِأحدٍ أن يضارب بين الأحاديث، فيقول:
نهى النبي -صلى الله عليه وسلـم- عن الصيام بعد منتصف شهر شعبان، والحديث :« إذا انتصف شعبان فلا تصوموا » ، بعض أهل الحديث يُضعِّفُهُ ، والصحيح أنه حسن ، ولكنه مؤوّل، ومُؤوّلٌ على معنىً ، وهذا المعنى : أنه مؤوّلٌ على ابتداء الصيام ، وأما من كانت له عادة ؛ فلا حرج لو صام بعد المنتصف من شعبان ، لِما ثبت عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – :« أن النبي -صلى الله عليه وسلـم – ما كان يصوم شهراً كاملاً إلا رمضان، وكان أكثر ما يصوم من شعبان».
وفي رواية: «كان يصوم أكثر شعبان»
فلمّا كان النبي – صلى الله عليه وسلـم- يصوم أكثر شعبان؛ فبِلا شك أن الأكثرية لا تحصُلُ إلا بالصيام بعد منتصفه.
فلو أن صيامه – صلى الله عليه وسلـم – كان في المنتصف الأول ، لما تحقّق أن النبي – صلى الله عليه وسلـم – كان يصوم أكثر شعبان .
فدلّ النهي -على فرض ثبوته وهو كذلك إن شاء الله- على ابتداء الصيام، وأمّا الصيام الذي له سبب كالقضاء أو من كانت له عادة في صيام اثنين وخميس ، أو من بدأ الصيام في أول شعبان لِيصِيب السُّنّة في صيام أغلبه ؛ فلو أنه صام بعده فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.
فمن كانت عليها قضاء، أو من كان عليه قضاء من الرجال ، بعض الرجال قد يفطر بمرض أو بسفر؛ فالواجب عليه أن يقضي قبل أن يدخل رمضان في السنة الثانية.
والمسألة الأخيرة : من وقع في المخالفة ؛ فماذا عليه ؟
من وقع في المخالفة فدخل رمضان وهو لم يقضِ ما فاته من رمضان السابق ، فماذا عليه ؟
أهل العلم على قولين :
قول يقول : يقضي ولا شيء عليه ، وهذا الذي يميل إليه القلب.
وبعضهم يقول : يقضي وعليه مع كل يوم أخّره ؛ إطعام مسكين.
قالوا: يقضي ، – فمثلاً – أفطر خمسة أيام ، ودخل رمضان الثاني ولم يقض ؛ يقضي الخمسة أيام ، ومع كل يوم يقضيه يُطعِم مسكيناً.
هذا حقيقة – وجوب الإطعام – هو خلاف الأصل ، والأصل براءة الذمة ، والذِّمة الأصل فيها أن لا تُشغل إلا بتكليف من الشارع ، فلمّا نظرنا فلم نجد الإطعام في كتاب الله، وأوجب الله تعالى بإطلاق القضاء ، والإطلاق في الحقيقة ليس على إطلاقه ، فهو مُقيّدٌ بقبل رمضان ، معنى عموم الإطلاق مُؤوّل، مؤوّل بالذي كان عليه أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلـم -، ولِذا قلتُ لكم أول ما قلت : هذا حديث موقوف له حكم الرفع ، لماذا؟
القول قول عائشة ، وأدّت فعلاً في زمن النبي -صلى الله عليه وسلـم -، والنبي -صلى الله عليه وسلـم- كان يعلم به، وعِلمُهُ مع إقراره ، ولولا إقرارُه؛ لما قالت عائشة ما قالت ، والأمر لا يخُصُّ واحدةً ، وإنما الأمر يخصُّ جميع نسائه ، فلمّا كان الأمرُ كذلك؛ كان إطلاقُ القضاء إلى الوفاة ودون التقييد برمضان الثاني مُؤوّل في قول الله – عز وجل – : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ} [البقرة : 184] ، فهذا {فعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ} ما يُفهم منه الإطلاق ، إنما يُفهمُ منه : بأن العدة يجب أن تكون قبل دخول رمضان الثاني.
فالله عز وجل أوجب القضاء ، والنبي – صلى الله عليه وسلـم – في علمه بأحوال النساء كذلك وما أوجبوا شيئا زائداً ، وما ثبت شيء عن أصحاب رسول – صلى الله عليه وسلـم – من إطعام ، والذي ثبت في الإطعام إنما هو قول جماعة من التابعين ، وبما أن الأصل في الذمة البراءة ، والأصل في المال الحُرمة ؛ فإن القول بوجوب الإطعام فيه ضعف لهذين الملحظيْن على خلاف معتبرٍ بين أهل العلم.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أُنبِّه على أن مِن أسرار كثرة صيام رسول الله – صلى الله عليه وسلـم – في شعبان ؛ أنه كان يصوم ويُلاطِف أزواجه في مشاركتهن بالصيام ، وليس صيامه فقط من أجل هذا الملحظ ، وإنما الأعمال تُرفع فيه إلى الله.
وشعبان شهر يغفل عنه الناس، فشعبان بلا شك له فضيلة، وهو ليس كسائر الشهور، وإنما هو بين الشهور كيومي الاثنين والخميس بين سائر الأيام ، ولذا قال النبي – صلى الله عليه وسلـم – :« ذاك شهر يغفل عنه الناس ، وأُحِبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم ».
وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان ينبغي أن يبتهل أيام رفع الأعمال إلى الله عز وجل ، وفيه إشارة أن الإنسان الموفّق ينبغي أن يعتني بآخر عهده ، وأن يسأل ربه أن يُحسِّن خاتمته.
« إني أُحِبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم »، أسأل الله – عز وجل – أن يجعل خير أيامنا يوم لقائه وأن يجعل أحسن أعمالنا خواتيمها.
هذا والله أعلم.✍🏻✍🏻
↩ رابط الفتوى:
◀ خدمة الدرر الحسان من مجالس الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان✍️✍
📥 للاشتراك:
• واتس آب: +962-77-675-7052
• تلغرام: t.me/meshhoor