السؤال: شيخنا يقال أن أبا حنيفة الإمام-رحمه الله تعالى- أخذ مذهبه بالتواتر من علماء أهل الكوفة عن الصحابة، فعليه يقال عندهم: أن عمل أهل الكوفة حجة يوازي عمل أهل المدينة عند المالكية. فهل هو الأمر كذلك شيخنا؟، وهل هو حجة؟، وهل ثمة فرق بين عمل أهل الكوفة وبين عمل أهل المدينة؟

السؤال:
شيخنا يقال أن أبا حنيفة الإمام-رحمه الله تعالى- أخذ مذهبه بالتواتر من علماء أهل الكوفة عن الصحابة، فعليه يقال عندهم: أن عمل أهل الكوفة حجة يوازي عمل أهل المدينة عند المالكية.

فهل هو الأمر كذلك شيخنا؟، وهل هو حجة؟، وهل ثمة فرق بين عمل أهل الكوفة وبين عمل أهل المدينة؟

الجواب:
بارك الله فيك.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه، حجية أهل المدينة أصل معتد به، ومعتبر عند العلماء.

ولذا يقول بعض المحققين من أهل العلم: أن مذهب مالك في المعاملات أصوب من غيره؛ لأنه هو الذي أدرك ما عليه الصحابة والتابعين -رضي الله تعالى عنهم-.

الآن: حجية عمل أهل المدينة هو الذي اشتهر وشاع بين طلبة العلم بالاعتبار، بخلاف عمل أهل الكوفة.

لكن السؤال المهم الذي ينبغي أن ينتبه إليه طالب الحق: عمل أهل المدينه متى يكون حجة؟
إذا وجد الإسناد الموصول لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصح النقل عنهم فهو حجة.

فحجة عمل أهل المدينة لا يراد به الأبواب ولا الجدران ولا الشبابيك، وإنما العمل الموصول لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا هو الحجة.

ولذا الزيادة عن أحد عشر ركعة لا يقال عنه بدعة؛ لأنه عمل أهل المدينة، وصح ذلك فيما نقل مالك في زمن كبار التابعين، والعمل ليس مرهونا بشخص وإنما هو مرهون بجيل، والبدعة لا تطلق على صنيع جيل، فالآن عمل أهل الكوفة الموصول لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو حجة.
نعم علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- هو أول من نقل عاصمة الإسلام من المدينة النبوية إلى الكوفة، وذكر الإمام العجلي في كتابه “تاريخ الثقات” أنه كان في الكوفة ألف وخمسمئة وأربعين صحابيا -رضي الله تعالى عنهم-.

والناظر في الصحيحين والسابر لطرق الأحاديث التي فيهما يجد أن الجل والغالب على أحاديث الصحيحين في طبقة التابعين وتابعيهم ولعله يشمل التي بعدهم كلهم من البصرة أو من الكوفة.

فالعلم انتقل إلى الكوفة في زمن علي -رضي الله تعالى عنه-، وكانت سياسة عثمان قبله أن يأذن للعلماء بمغادرة المدينة، خلافا لسياسة عمر فقد حبسهم ليشاورهم، ولا سيما أن النوازل والمستجدات بدأت تظهر في زمنه -رضي الله تعالى عنه-، فلما قامت الولاية لعلي -رضي الله تعالى عنه-، وكان توسع المسلمين في جهة العراق (والمراد بالعراق عراق العرب أو عراق العجم)؛ فكان الصحابة كما في مصنف ابن أبي شيبة يسمون الهند عراقا.
خلافة أبي بكر المباركة رمى بالإسلام رمية مباركة، وكانت باتجاه بلاد الشام، بخلاف خلافة عمر الذي رمى بالإسلام رمية باتجاه العراق؛ ففتح العراق، ثم توجه إلى عراق العجم.

الشاهد -بارك الله فيك- أن *حجية العمل العبرة فيه بالإسناد وبالثبوت والصحة*، فلو كان فقه الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- متواترا لكان هو المحق بخلاف غيره، ولما لامه الناس على إيراد الأدلة.

ففقه الإمام أبي حنيفة بالجملة مستنبط من فقهاء الكوفة، من طبقة التابعين والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، ولكنه لم يضبط الأحاديث، حتى الإمام أبو حنيفة من حيث العدالة فهو عدل ولا يشك أحد في عدالته، أما من جهة الضبط فقد تكلم فيه عدد كبير من الحفاظ في ضبطه.

فالشاهد -بارك الله فيك-: أي عمل موصول بالإسناد الصحيح إلى الصحابة -رضي الله تعالى- عنهم فهو حجة، وأصبح عمل البلدان للأسف توسع فيه كثير من الفقهاء، وأصبحوا يلقون الكلام على عواهنه دون تحرير ولا تحقيق.

فأن يقال كل كلمة قالها الإمام أبي حنيفة-رحمه الله- هي فعل متواتر من الصحابة لا يقر على هذا أحد ممن شم أنفه الحديث والأثر والأسانيد الصحيحة.

بل قامت كثير من الأحاديث الصحيحة وردت من قبل الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، بأصول مأخوذة من العقل ولم تؤخذ من المنقول.

من مثل حديث الآحاد ليس حجة إذا خالف القطعي (قطعي القران).

ولذا مذهب الإمام أبي حنيفة أن من صلى ولم يقرأ بفاتحة الكتاب يأثم، ولكن صلاته صحيحة لأن الله يقول: ﴿ فَاقرَءوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ﴾[المزمل: ٢٠]، وحديث ” لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ”. وهو حديث في الصحيحين عن عبادة ابن الصامت رضي الله تعالى عنه، هذا الحديث لا يدل على ركنية قراءة الفاتحة.

فالقول بأن كل قول لأبي حنيفة هو مأخوذ من الأحاديث هذا خطأ وليس بصحيح، وإنما الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- له منهج سار عليه؛ فاخطأ في شيء وأصاب في شيء، وله أقوال تخالف الثابت في الصحيحين.

ولذا فمن المعلوم أن الفقهاء بالجملة ينقسمون إلى قسمين:
– فقهاء يقفون على ظواهر النصوص، وهذه مدرسة الإمام الشافعي، ومدرسة الإمام أحمد -رحمهما الله تعالى-.
– فقهاء يغوصون إلى المعاني ويرجحون المعاني ويتوسعون فيها، وهذه مدرسة الإمام أبي حنيفة ومدرسه الإمام مالك -رحمهما الله تعالى-..

ودائما نقول أن الفقه هو الموائمة بين اللفظ والمعنى، وأنه لا يجوز لك أن تتعدى اللفظ إلى المعنى والشرع لا يأذن بذلك، ولا يجوز لك أن تجمد على اللفظ دون إعمال المعنى والشرع يأذن بذلك، فهذا هو الفقه بالجملة.

الآن انظر إلى متأخري المالكية، المالكية لم يكتفوا بالقول بحجية عمل أهل المدينة، فذهب المتأخرون من المالكية إلى حجية عمل أهل فاس ويقولون على هذا أهل فاس في العمل، وهذا كذلك، كالذي قبله. فالعبرة بالإسناد والصحة.

ومن المعلوم أن منهج أهل البدع التعلق بالعمومات، فلما تحاققهم وتناقشهم وتبحث المسألة بأدلتها التي وردت فيها، فإنهم يحتجون عليك بعمومات، وهذه العمومات قامت الأدلة التفصيلية على خلافها، وهذا منهج من منهج أهل البدع.
لماذا أقول منهج أهل البدع ؟
لأن اعتقاد أن إمام من الأئمة الكبار الذين نبجلهم ونحترمهم، ولكننا لا نقدسهم أن كل قول من أقوالهم حجة في دين الله، وأنهم لا ينطقون عن الهوى، وأن كلامهم ما بنبغي أن يوزن بالموازين المعروفة عند أهل العلم من صحة الاستدلال وصحة الاستنباط، إنما هذا مبتدع، كل من يعتقد أن فلانا غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلامه كله حق وأنه لا يجوز أن يحاد عن أي مسألة قالها هذا مبتدع.

ما هو مسلك أهل البدع؟
هذا قرره الشاطبي بتفصيل في كتابه “الاعتصام” قرر أن أهل البدع دائما يحتجون بالعمومات، ولا يحتجون بالأدلة الجزئية الخاصة بالمسألة.

لعل في هذا بيانا يكفي بإذن الله تعالى.

مداخلة الأخ المتصل:
شيخنا ذكرتم أن الإمام الشافعي من جمله كلامكم يأخذ بظواهر النصوص.
هل من الدقة أن نقول أن الإمام الشافعي جمع بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث؟

الشيخ مشهور :
أما الشافعي -رحمه الله تعالى- لما دخل بغداد وجد فرقتين وأقسم بالله أن يجمع بينهما، لكن الناظر في فقهه يجد أنه يعتمد على الأدلة النقلية كثيرا، وأن الغوص في المعاني وإعمال ما يسمى بالمقاصد وما شابه مسلك ليس ظاهرا عنده وإن وجد في فقهه.
والله تعالى أعلم.

مداخلة الأخ المتصل:
شيخنا ذكرتم مثالا لقراءة الفاتحة عند الأحناف، وذكرتم الأحاديث، هل أحاديث قراءة الفاتحة وأنها ركن متواترة شيخنا؟
الشيخ مشهور :
بلا شك أنها متواتر، وألف الإمام البيهقي كتابه “جزء القراءة خلف الإمام”، وألف الإمام الشافعي “القراءة خلف الإمام” وهذه مسألة اخرى، مع هذا فإن قراءة الفاتحة في الجهرية يرى المحدثون أنه لا بد من قراءتها، ونصر هذا البخاري في كتابه “القراءة خلف الإمام”، والإمام البيهقي في كتابه “القراءة خلف الإمام” وإعمالا للظاهر.
والله تعالى أعلم.

مداخلة الأخ المتصل:
كذلك رتب البعض قال: فلا يجوز مناقشة علماء الاحناف إلا بأصولهم، -بأصول مذهبهم فقط- فهل هذا الكلام صحيح شيخنا؟
الشيخ مشهور :
صحيح وخطأ، صحيح أنك لا تستطيع أن تقول أنهم حادوا عن أصولهم، وإذا ناقشتهم فلا بد أن تتذكر الأصول، لأن بعض الأقوال قد تبدوا مستغربة، ولكن من حيث الحق والباطل فالمناقشة بالصواب من الأدلة.

يعني اليد العادِيَة الظالمة هل تزيل الملك؟
لو أن كافرا أخذ شيئا من أراضينا أو شيئا من أموالنا فهل يملك هذا الشيء؟
عند أبي حنيفة يملك.

لكن الجماهير تقول أن اليد العادية لا يترتب عليها صحة ملك.
وهذا معمول به في القوانين الدولية العالمية.
وإلا فليهنأ اليهود.

قال تعالى: ﴿لِلفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذينَ أُخرِجوا مِن دِيارِهِم وَأَموالِهِم﴾[الحشر: ٨]
فمذهب الإمام أبي حنيفة أن الكافر إذا ملك يصبح صاحب هذه الدار وصاحب المال يصبح فقير، قال الله تعالى: ﴿لِلفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذينَ أُخرِجوا﴾، الجماهير قالوا لهم: ﴿دِيارِهِم وَأَموالِهِم﴾ ما خرجت عن ملكهم. والنصوص الصريحة الواضحة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (بئس ما جزيتيها) سنن أبي داود ٣٣١٦ وصححه الألباني، لما نذرت امرأة أنها إن أوصلتها المدينة، وركبت على ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- “والحديث في صحيح مسلم برقم ١٦٤١”
“كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ، فأسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِن أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، رَجُلًا مِن بَنِي عُقَيْلٍ، وَأَصَابُوا معهُ العَضْبَاءَ، فأتَى عليه رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَهو في الوَثَاقِ، قالَ: يا مُحَمَّدُ، فأتَاهُ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ فَقالَ: بمَ أَخَذْتَنِي، وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الحَاجِّ؟ فَقالَ: إعْظَامًا لِذلكَ أَخَذْتُكَ بجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عنْه، فَنَادَاهُ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، يا مُحَمَّدُ، وَكانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَقِيقًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ قالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، قالَ: لو قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الفلاحِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَادَاهُ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، يا مُحَمَّدُ، فأتَاهُ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ قالَ: إنِّي جَائِعٌ فأطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فأسْقِنِي، قالَ: هذِه حَاجَتُكَ، فَفُدِيَ بالرَّجُلَيْنِ. قالَ: وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ وَأُصِيبَتِ العَضْبَاءُ، فَكَانَتِ المَرْأَةُ في الوَثَاقِ وَكانَ القَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الوَثَاقِ، فأتَتِ الإبِلَ، فَجَعَلَتْ إذَا دَنَتْ مِنَ البَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ حتَّى تَنْتَهي إلى العَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ، قالَ: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ فَقَعَدَتْ في عَجُزِهَا، ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، وَنَذِرُوا بهَا فَطَلَبُوهَا فأعْجَزَتْهُمْ، قالَ: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ المَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقالوا: العَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَتْ: إنَّهَا نَذَرَتْ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فأتَوْا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا ذلكَ له، فَقالَ: سُبْحَانَ اللهِ، بئْسَما جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيما لا يَمْلِكُ العَبْدُ.”

نذرت أن تذبحها، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها ما ملكتها، وقال (بئس ما جزيتيها) جزيتي هذه الناقة التي أوصلتك، وأخذ منها -النبي صلى الله عليه وسلم- منها الناقة وكان قد ملكها الكفار.

فالمسألة طويلة ولها ذيول وهذه مسألة من المسائل.

فالإمام أبي حنيفة قال ما قال بناء على أصول عنده، وأصوله بعضها معتبر وبعضها غير معتبر، فإن ثبت عندنا الدليل الصحيح فنقول به، ونقول -رحمه الله- هو مجتهد وله أجر، ولا نخالفه من عندنا، وإنما خالفه الأئمة الكبار.

انظر مثلا فقه المسألة في كتاب “الخلافيات” للإمام البيهقي، وانظرها في كتاب “الأوسط” لأبن المنذر، وحللها وحلل أصلها وبين كيف نشأت وكيف قامت مع الراجح الأستاذ فتح الدريني في كتابه ( المناهج الأصولية).

والكلام كثير وطويل في هذا الباب.✍️✍️

↩️ الرابط:

السؤال: شيخنا يقال أن أبا حنيفة الإمام-رحمه الله تعالى- أخذ مذهبه بالتواتر من علماء أهل الكوفة عن الصحابة، فعليه يقال عندهم: أن عمل أهل الكوفة حجة يوازي عمل أهل المدينة عند المالكية. فهل هو الأمر كذلك شيخنا؟، وهل هو حجة؟، وهل ثمة فرق بين عمل أهل الكوفة وبين عمل أهل المدينة؟


⬅ خدمة الدرر الحسان من مجالس الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان.

📥 للاشتراك:
• واتس آب: ‎+962-77-675-7052
• تلغرام: t.me/meshhoor